كان عمنا عبد الرحيم يرحمه الله تعالى يعرض خروفه للبيع بالقرية، أيام بلياليها مرت، دون أن يبدو في أفق القرية الصغير أي مشتر، أحد المزارعين ينصح عمنا عبد الرحيم بأن يأخذ خروفه إلى المدينة حيث رحابة سوق مدينة بربر، وهي المدينة الأقرب إلى تلك المضارب، فقريتنا واحدة من القرى التي تتسور مدينة بربر وتمدها بالخراف والخضروات والحبوب، والمدينة في المقابل تمدنا بجيش جرار من الجباة والمتحصلين، فالمرتبات التي تدفعها المدينة بالكاد تخرج من حقولنا ومزارعنا، وتلك قصة أخرى ربما نعرض لها في أوقات لاحقة، وأعنى «إحساس المدينة» المتأخر جداً بالريف، إذ الآن فقط أدركت المدينة أن الجماهير الذين يقطنون الريف يستحقون خدمات الكهرباء والمياه والحياة، فكما زرعت القرى المحصولات عقوداً من الزمان، فالآن فقط بدأت المدينة تزرع أعمدة كهربائها في تلك القرى التي سقطت سهواً من ذاكرة المدينة في أزمنة سحيقة، حين كانت القرى في تلك الأزمنة تعطي كل ما عندها للمدينة مقابل أن تبعث المدينة لها «بتمرجي وعدة مدرسين» الزراعة والعشور والأجور مقابل بعض الأفندية المهم أن عمنا عبد الرحيم يرفض الفكرة تماماً، فكرة أن يعرض خروفه بالمدينة، ويقول «ناس بربر ما بدوني قروش»، ويُسأل لماذا، فيقول «لأنهم لن ينظروا في خروفي ولكنهم سينظرون في هيئتي وملبسي»، وعمنا عبد الرحيم يومئذ كسائر المزارعين الذين يلبسون (عراقي من الدمورية وبعض عمامة ومركوب). والقصة تصلح للحكومة في مواسم عرض قضايا السودان في الأسواق العالمية، وأنا هنا أقصد الشق الحكومي الشمالي، فنحن الآن عائدون من عرض قضايانا «بأسواق واشنطن ونيويورك»، وأجزم لكم وكما فعل عمنا عبد الرحيم يرحمه الله (أن ناس واشنطن لن ينظروا في عدالة قضايانا ولكنهم سينظرون إلى هيئاتنا وجلاليبنا وذقوننا)، ثم لن يعطونا مقابلاً مجزياً وقيمة محترمة ونظرة عادلة لقضايانا، فالسودان سودان مهما طالت عمامته ولن يخرج من تلك «اللستة» الشهيرة التي تقول واشنطن إنها ترعى الإرهاب! والآن أود أن أحدثكم عن أسواق أخرى ربما تضع ثمناً أكبر وقيمة مجزية «لعمائم أطروحاتكم وذقون أفكاركم»، وأعني أسواق الدول الإسلامية، وبطبيعة الحال لا أعوّل كثيراً على أسواق الأنظمة الرسمية، ولكن نعول من بعد الله سبحانه وتعالى على بعض «أثرياء المنهج الإسلامي»، وأغنياء الأطروحات العقدية، فقط إن نحن أحسنّا فن عرض أفكارنا وموضوعاتنا. وفن العرض الجيد يبدأ من حيث انتهت الحركة الشعبية لتحرير السودان، أعنى من طريقة عرض قضاياها لصهاينة واشنطن، والعرض يبدأ بالدين وينتهي بالدين، وكأني بأثرياء اليهود في تلك الصالة الفخيمة المغلقة بواشنطن يسألون وفد الحركة «كم يعطيكم الشمال من عائدات النفط في العام؟» وقبل أن تجيب الحركة على هذا السؤال الذي يعرفون إجابته سلفاً، يقولون «الآن نعطيكم في هذه الجلسة ما يمكن أن يعطيكم إياه الشمال في عشر سنوات، وذلك (كعربون للانفصال)، وإذا ما اخترتم الانفصال سنعطيكم مثله عشر مرات أخرى، وسنعمر الجنوب ونجعله جنة أفريقيا القادمة، فقط ومن الآن اعملوا سراً وعلناً للانفصال، بل للاستقلال». والخطاب موجه لأمة المليار ونصف المليار مسلم، فهذه بوابتكم الجنوبية، هذه أمتكم أمة واحدة، هذه قضيتكم، إسرائيل هي من تدفع لتقسيم السودان ولأجل سرقة مواردكم، سرقة المياه العذبة والأرض والثروات والمعادن والنفط وكل الموارد البكر. على الأقل سأضمن لكم أن هناك بعض الأمراء والملوك لهم استعداد الآن للاستماع وللدفع، حتى إذا ما انفصل الجنوب سينهضون لتغطية الفجوة المادية، وسيكون حصار أزمة دارفور ممكناً وتدفق الاستثمارات العربية والإسلامية سيكون أكثر إمكانية. ونحن لا نتمنى الانفصال ولكن إذا ما وقع «لنركز» ونثبت ونشد عضدنا بأبناء الأمة الإسلامية، فلتبع الحركة بضاعتها الكاسدة في أسواق اليهود والأمريكان، فنحن لنا أسواق ولنا أحباب وإخوة ولنا وعد ورب قوي ونرجو من الله ما لا يرجون.