استقبلتني هذه السكرتيرة «بنظرات ساخرة» لو أنها وُزِّعت على كل سكان ولاية الخرطوم لوسعتهم، وكان وراء هذه «النظرة كلام» لم تجرؤ على النطق به، لكن هذه المهنة اكسبتنا فراسة معرفة أسرار الكلام الذي يقال والذي لا يقال، فما قالته بنظراتها التي حاولت أن تقرأ بها شخصيتي، وهي تتفحصني بنظرة من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل، من تكون أنت يا سيدي؟ وكيف أصلاً وصلت إلى هنا؟ إلى هذا الموقع المتقدم متخطياً أكثر من (ثلاثة كمائن)؟ والقصة تبدأ برجال الهدف، ولا تنتهي برجال مكتب السيد الوزير، بل كيف تتجرأ على القول «إنك ترغب في مقابلة السيد الوزير»؟! تذكرت ساعتها قصة عمنا عبد الرحيم، يرحمه الله، لما نصحه أحدهم بأن يأخذ خروفه ليعرضه في سوق المدينة، فقال له (ناس المدينة ما بدوني سعر كويس) لأنهم لن ينظروا في خروفي ولكنهم سينظرون في هيئتي. وعمنا عبد الرحيم يومئذ في حلّة المزارعين، ونحن أبناء مزارعين، فهذه السكرتيرة لا ولن «تسعرّني» جيداً، فنحن مهما «تمدنَّا» لا نخلو من بعض السمات الريفية، بحيث لا تحتاج إلى عبقرية لتكتشف أن هذا الشخص الذي يقف أمامك هو من أصول ريفية. قالت «السيد الوزير غير موجود»، ثم أردفتُ بسؤال أكثر جرأة بل وأكثر تطاولاً، فقلت «متى سيأتي السيد الوزير؟» وكانت لها إجابات، الإجابة الأولى التي عبّرت عنها بنظراتها هي «كمان بتسألني بجي متين!»، أما الإجابة التي قالتها فهي إنها لا تعرف متى سيأتي، ورأيت أن أسارع بالانصراف، حتى لا أتعرض لمزيد من «القطع الجائر» من النظرات، ولو كنت أراهن على الصحافة؛ فإن هذه الفتاة التي أمامي لو كانت تقرأ شيئاً من الصحف فهو لا يتعدى الأبراج والكلمات المتقاطعة، ولو أردت أن أنصفها شيئاً قليلاً فربما كانت تقرأ بعض صحف التسلية والجريمة، وهذه فراسة مهنية أخرى، فأرني كيف تتحدث، أخبرك ماذا تقرأ، ومن أين تستمد ثقافتك! «تحدث لكي أراك». لكننا تعلمنا من هذه المواقف المتكررة أن نعالج حالات «التجهم والتهجم» بشيء من الطُرف والقصص التي قد تكون بمثابة السلوى والعزاء، وذلك حتى لا ننفجر في مكاتب السكرتيرات وعلى مداخل مكاتب الوزراء، فقلت لها في سري وأنا أهم بالانصراف «دا كلام قوليه لي زول ما عنده حديدة»، وتنسب هذه الحكاية لأحدهم وهو يومئذ منتشٍ بامتلاكه دراجة بخارية فاخرة، وقف الرجل أمام أحد المطاعم، فطلب من صاحب المطعم بعض الطلبات، فقال له (شطبنا) ولا توجد لدينا طلبات، فضغط صاحب الموتر على المقود فأحدث دوياً هائلاً، ثم قال وهو يهم بالانصراف «دا كلام قولو لي زول ما عنده حديدة»، بمعنى أنه يمتلك الوسيلة التي يمكن أن يذهب بها إلى كل مطاعم المدينة! فكما لو أنني، وأنا أستخدم الهاتف الجوال، أقول لتلك السكرتيرة «دا كلام قوليه لشخص ليست لديه وسيلة أخرى»، فكتبت رسالة هاتفية للسيد الوزير بأنني أرغب في مقابلتك لأمر عام وعاجل، فما كان من الرجل إلا أن يقول لي «أنا في الطريق إلى المكتب فانتظرني»، فعدت مرة أخرى إلى مكتب السكرتيرة، وجلست دون أن أتحدث إليها، وكأني بها تقول «أنت تاني جيت؟»، فأول شيء فعله السيد الوزير عند وصوله المكتب هو أن «ندهني» وعبر السكرتيرة ذاتها للدخول، فدخلت كما يدخل الثوار والفاتحون إلى بعض القلاع العصية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، لماذا ينظر بعضهم إلى بعض زوار السادة الوزراء والمديرين كما لو أنهم لصوص ومتسولون، وهؤلاء الوزراء والمديرون يومئذ لا ذنب لهم، فبعض السكرتيرات يشوهن صورة من يحجبنه بالداخل، وأنا أقول بعضهن، لكنك في نهاية الأمر تذعن إلى أن «الفهم» وفن التعامل «قسمة ونصيب»، وكل ينفق مما عنده، فلا تستطيع أن تطالب أحداً بما لا يملك، ففاقد الشيء لا يعطيه. والله أعلم