{ كنت أعاني أيّما معاناة من انعدام إحساسي بالحميمية والتواصل بين عُلب المدينة الأسمنتية وأهلها اللاهثين خلف الحياة الراكضة بإيقاعها السريع سعياً وراء بعض الأمان والمال والقوة. وكنت قد بدأت أشكل قناعتي المفرطة بأن الناس ما عادوا هم الناس وأن الكثير من الأشياء الجميلة والمضامين النبيلة قد تساقطت وضاعت من بين أيدينا بفعل تغيّر الزمان وربما بفعل تغير تراكيبنا الإنسانية والاجتماعية، فسادت ثقافة المصالح والأنانية واللامبالاة ولم نعد نكترث كثيراً لآلام بعضنا البعض ولا حتى أفراحنا، والشاهد أن كل الألوان الزاهية في فعل تواصلنا الإنساني قد بهتت وحدث تحول كبير في تعريفات الجوار والصداقة والقرابة وحتى الحب لدينا، وأحسب أنني لست وحدي التي باتت تشعر بهذا الإحساس الدميم الرتيب. { وأنا في غمرة استسلامي لبرود المشاعر الإنسانية الذي بات سائداً من كل اتجاه، حملني واجب اجتماعي مقدس لزيارة (حِلّة) وادعة تقع شمال أم درمان وتعرف ب (الحوشاب)، وكان بإمكاني أن أختلق أي عذر واهٍ لأتقاعس عن عبء هذا المشوار الطويل والواجب الاجتماعي، غير أن إلحاح الوالدة وضرورة الأمر وأيادي أصحاب الواجب البيضاء التي تحفني منذ الصغر دعتني للإذعان وشد الرحال صوب (الحوشاب) كما أنني كنت - والحق يقال - أريد أن أقف عن كثب على شكل الحياة بعيداً عن لهاث المدينة، كما كنت أريد أن أطلع أبنائي الذين يرهقونني بطلباتهم وتذمرهم الدائم (عمال على بطال) على نموذج لحياة بسيطة بحيث يحمدون الله كثيراً على ما هم عليه من نعمة وترف بت أحسه عملياً بعض نقمة في جانب من جوانبه لأنه أبعدنا كثيراً عن ذواتنا وفطرتنا. { وقد كان أن حملت بعضي وصغاري ويممت وجهي شطر هذه المنطقة النائية الموغلة في الهدوء والحياة الفطرية البسيطة، وأفحمني كل ما وجدته من ترحاب حميم وصادق وأخجلني الكرم الحاتمي الذي غمرني به الجميع والاهتمام المفرط الذي تلقوني به وهم يتسابقون لخدمتي والحرص على تمام راحتي. وقد كان هذا الواجب المقدس هو مناسبة زواج ابن الخالة العزيز «أيمن زهران» الذي تركت أمه الغالية «سيدة الفضيل» أثراً واضحاً في ملامح طفولتي المبكرة وجمائل عدة طوقتني بها في مقتبل عمري وتساءلت عن الدوافع التي جعلت كل هذا العدد الكبير من الناس يشاركون عملياً وكلٌّ حسب طاقته وإمكانياته في هذه المناسبة؟ وهل لأهل الدار أياد بيضاء على الجميع كما هو الحال معي؟! حتى اكتشفت أن هذا هو ديدن المنطقة وأهلها، وأن قيام مناسبة ما بالمنطقة، أمحزنة كانت - لا قدر الله - أم مفرحة، يتطلب أن يغلق الجميع دورهم ويتجمعوا تماماً في المكان المعني. وعلمت أيضاً أن جميع أهل (الحلة) يمتنعون عن صنع طعام خاص بدورهم ويكتفي الجميع بالأكل والشرب معاً في بيت المناسبة دون أن يتذمر أهل الدار أو يشعروا بالحرج أو الضجر، فالبيت بيت الجميع، والفرح فرح الجميع، وحتى الحزن هو حزن الجميع. والكل يتحركون في الاتجاهات الأربعة لإكرام الضيوف والتعاون على قضاء الحوائج وستر الحال. { ولم أتمكن تماماً من معرفة ماهية الصلات الرحمية التي تربط الجميع، فالكل هنا أهل، الابن ابن الجميع، والبنت أيضاً بنتهم والبيت بيتهم أيضاً، وجميع أهل المنطقة في تجانس وتآلف وانسجام حميم، وشكل الحياة على بساطته يتسم بالقناعة والرضا والطيبة، ولن تجد أبداً من يشكو من الحياة أو يلعن الأقدار. الضحكة لا تفارق الحناجر، الابتسامة على كل الوجوه وهذا ينعكس جمالاً فطرياً نقياً على السيدات والآنسات، ورجولة وشهامة على الرجال والفتيان. وأقسم أنني لم أشعر يوماً بالزهو والسعادة والشجن كما شعرت يومها وأنا أغادر المنطقة و(الحلة) عن بكرة أبيها في وداعي رجالاً ونساءً وأطفالاً في موكب ضخم وهم يلوحون بأياد معطاءة وألسنتهم تلهج بالشكر والدعاء في مشهد يؤكد أن المدينة قد سرقت أعمارنا وأن الضواحي ما تزال بألف خير وعلينا أن نعاودها دائماً. { تلويح: من أين جاء هؤلاء بكل هذا الرضا والطيبة؟ ليتهم يخبرونا.