المعجزة الأولى: أن تنتقل إلى أرض الواقع، خلال الشهور القليلة المتبقية لاستفتاء الجنوب التصريحات القنبلة المفاجئة، التي أطلقها رئيس أحزاب المعارضة الأستاذ فاروق أبو عيسى، والتي دعا فيها القوى السياسية المعارضة للوقوف مع المؤتمر الوطني في مواجهة المخاطر التي تستهدف السودان أساساً وليس الإسلام. ومعلوم أن اليسار ظلّ يردد أن علاقته بالحركة الشعبية علاقة إستراتيجية وليست تكتيكية، فما تفسير هذه التصريحات؟ تفسيرها الخروج من التحالف «الإستراتيجي» مع الحركة الشعبية بعد اتجاهها إلى خيار الانفصال، وأن الحرب الضروس إذا عاد اشتعال نيرانها من جديد فإن النتيجة المحتملة أن يتمزق السودان إرباً إرباً، ويصبح لقمة سائغة للقوى التي ظلت تتربص به على مدى سنوات طوال كواحد من أغنى الدول الغنية بمواردها الطبيعية. وإزاء هذه الكارثة المحتملة ليس هناك من سبيل غير قيام جبهة وطنية قوية الأركان هدفها الأول النهوض بالخطوة السريعة لحماية الوطن والحفاظ على كل ذرة من ترابه. وحين لا يعود مكان للخلافات بين القوى السياسية في مثل هذا المنعطف السياسي الخطير، خاصة وقد أصبح معلوماً لكل أهل السودان أن الخلافات المحتدمة دوماً بين الأحزاب السياسية دون التوصل إلى وفاق قومي حول القضايا الأساسية والجوهرية التي تهم الشعب والوطن، هي الكارثة الأولى التي ظلت تقطع الطريق على تقدم الوطن الاقتصادي والاجتماعي، وتحول دون استثمار موارده الطبيعية الهائلة لصالح أهله الذين يرزحون تحت وطأة الفقر والتخلُّف والبطالة والمرض. وهكذا إذا تحقق قيام الجبهة الوطنية، وبأسرع ما يكون، فتلك هي المعجزة الأولى دون أدنى شك. أما المعجزة الأخرى فهي: في الوقت نفسه تتمثل في التسريع بترسيم الحدود، وحل إشكالية أبيي، وحل إشكالية دارفور، وإشكالية النفط، وغير ذلك من المطلوبات التي تسبق إجراء الاستفتاء في موعده. وإذا حدث كل ذلك قبل الاستفتاء فهو المعجزة الأخرى بعينها دون أدنى جدال، خاصة أن حق تقرير مصير الجنوب ليس أمراً جديداً، فقد كان أول من نادى به حزب الجبهة المعادية للاستعمار «الواجهة» القانونية للحزب الشيوعي وكان ذلك في أول انتخابات برلمانية جرت في نوفمبر وديسمبر عام 1953، وهذا الحق تم تضمينه في اتفاقية السلام الشامل ما يعني أن الانفصال وارد، وكذلك وحدة السودان واردة. فما المعضلة إذا انعقدت إرادة أهل الجنوب على خيار الانفصال، هل تقوم القيامة عندئذ؟ أم أن الأمر الطبيعي هو أن يتولى الجنوب أمر إدارة دولته المستقلة؟ وبنائها وتنميتها كما يشاء، وأن يتولى الشمال إدارة دولته المستقلة كما يشاء أيضاً. وبلا شك أن الجنوب غني بموارده الطبيعية وهي الأساس الأول في بنائه وتنميته، وحتى إذا لم تكن لديه من الكفاءات والكوادر والخبرات والبني التحتية، فهو يستطيع أن يشق طريقه بمساعدات دولية من خبراء وفنيين وشركات استثمارية كما حدث في دول أخرى كانت من التخلف الاقتصادي والاجتماعي في غاية ولكن بفتح أبوابها أمام التعاون الدولي لاستثمار مواردها النفطية، واستخدام عائداتها، استطاعت تغيير واقعها القديم، بل وأن تصعد إلى مصاف الدول الكبرى الغنية، ولم يقف فيض خيراتها على شعوبها فقط، وإنما تدفق لشعوب أخرى من بينها السودان، هي أسهمت وتسهم بمالها في تمويل كثير من مشروعاته التنموية والخدمية، وهي التي ظلت تستوعب أعداداً كبيرة من السودانيين في مختلف مجالات العمل من أدنى الوظائف إلى أعلاها. وكذلك الشمال السوداني فهو الآخر يتمتع بموارد طبيعية هائلة معظمها غير مستثمر، كما لديه كوادر مقترة نسبياً، وهو أيضاً بتعاون دولي قائم على قاعدة المنفعة المتبادلة يمكن أن يقفز قفزة هائلة على طريق التقدم الاجتماعي، وكل ذلك كان يمكن أن يتحقق للسودان كله لو لا الصراعات السياسية - غير المبدئية - التي ظل ينفذ من خلالها التدخل الأجنبي، دعماً للحروب وإراقة الدماء، حتى بلغ الأمر حد تدويل قضايا السودان. فهل تحدث معجزة قيام الجبهة الوطنية، ومعجزة إجراء استفتاء الجنوب في سلام وأمن وأمان؟ تلك هي القضية التي يتطلّع الشعب إلى حلها. وبلا شك أنه بقيام دولة الشمال ودولة الجنوب إذا حدث ذلك، فسوف تكون العلاقات بين الشعبين أفضل مما هي عليه الآن، حيث تتلاشى سياسات الماضي وعقابيلها وتنتهي آثارها إلى غير رجعة، ويمضي موكب الحياة العريض أصفى من مياه النيل المشترك، وأكثر عذوبة وتلك هي الفطرة التي جبل الله عليها خلقه بأن يتعايشوا في سلام ووئام شعوباً وقبائل.