على شاشة تلفزيون قناة الجزيرة، كان مشهداً مؤثراً رحيل أول دفعة من منطقة جبل الأولياء، في سلسلة العودة إلى الجنوب، حيث تنتظرهم حركة التاريخ في إقرار مستقبل السودان عبر استفتاء 9 يناير- إما أن يظل دولة واحدة: أو دولتين متجاورتين، ولأنني واحد من الجيل الذي عاصر الحركة الوطنية منذ مظاهرات عام 1948م ضد الجمعية التشريعية «التدرج الدستوري» كان لابد أن يمر في مخيلتي شريط من الذكريات- منذ ذلك الوقت حتى الآن- إلا أن المهم ليس الدخول في تفاصيل هذه الذكريات، وإنما المهم هو استخلاص الدورس والعبر في المقام الأول.. وهنا يطل السؤال: ماذا جنى السودان- شماله وجنوبه - من الحرب منذ اندلاع تمرد حامية توريت في أغسطس 1954م والسودان على مشارف إعلان استقلاله، حتى إتفاقية السلام الشاملة عام 2005م التي أسدلت الستار على هذه المأساة الطويلة الدامية؟ على مستوى أبناء السودان- في الشمال والجنوب- الذين حملت بهم أمهاتهم في أرحامهن حتى خرجوا إلى الوجود، ليعمروا الأرض بالتناسل والتكاثر ويتعاقبون- جيلاً إثر جيل- فكم منهم يا ترى ارتوت جائحة الحرب من دمائهم، وشبعت نيرانها من لحومهم حتى لم يبق منها إلا ما يسد جوع صقور الجو والفلوات، وكاسرات وحوش الغابات. وكم وكم من أمهات رزئن بفقد فلذات أكبادهن، وآباء هدتهم الشخوخة وأوهنت عظامهم وانقطع رزقهم، وزوجات ترملنّ وهنّ في بداية حياتهن الزوجية، وأطفال شربوا من كأس اليُتم والضياع حتى آخر قطرة. وعلى مستوى الاقتصاد والتنمية ماذا جنى السودان غير تخلُّفه عن اللحاق بكثير من البلدان التي استطاعت أن تبني حياتها المستقرة باستثمار ما حباها الله به من موارد طبيعية، توفيراً لاحتياجات شعوبها. بالزراعة والصناعة والخدمات، وكان يمكن للسودان- بحكم موارده الطبيعية الهائلة - أن يصبح في مقدمة الدول المتقدمة لو لا هذه الحرب الطويلة وما أحدثته من خلافات وصراعات داخلية مما فتح الطريق واسعاً أمام التدخل الأجنبي ومطامعه التي لا تحدها حدود. وواهم من يعتقد أن الأساس الحقيقي لإشكالية السودان ليس هو الصراع على السلطة، وأنما الصراع من أجل «الديمقراطية» وهي دعوة خبيثة تحاول الخداع باسم الديمقراطية لمداراة أكبر وأخطر خطأ اقترفته الحركة منذ أول برلمان سوداني على عهد الاستقلال، وهو برلمان التعددية الحزبية واسمه «الجمعية التأسيسية» الذي فشل حتى في صياغة وإجازة دستور دائم للبلاد، كما فشل في الاضطلاع بهذه المهمة في كل برلمانات التعددية بعد ثورة أكتوبر 1964م وأيضاً بعد برلمان انتفاضة أبريل 1985م، وفي كل هذه البرلمانات التعددية كان منشأ الخلاف الأساسي هو حول الدستور الإسلامي أم الدستور العلماني، وما عدا ذلك قضايا لا تمِت بصِلة إلى قضايا الناس في الريف والحضر وهي قضايا التنمية والخدمات. وكان من الطبيعي أن تتواصل الحرب في ظل برلمان التعددية وفي ظل نظام الإنقاذ الذي قام على أنقاضها حيث سبق ذلك كل الأحزاب السياسية التي كانت تدبِّر للقيام بإنقلاب عسكري. ثم بعد حوالي 17 عاماً حدثت اتفاقية السلام بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ولكن مع السنين لم يتوقف الصراع على السلطة بين القوى السياسية، فالمعارضة تطالب بقيام حكومة من كل ألوان الطيف السياسي، خلال السنوات الأخيرة التي تسبق استفتاء الجنوب، والمؤتمر الوطني يرفض ذلك، والحركة الشعبية موقفها معروف وهو أنه لا مكان لأحزاب المعارضة الشمالية لا في الحكومة المركزية ولا حكومة الجنوب رغم أكذوبة العلاقة الإستراتيجية بين الحركة الشعبية وبعض أحزاب الشمال التي ترددها، بل وتذهب إلى حد أن هذه العلاقة الإستراتيجية ستظل قائمة حتى في حال انفصال الجنوب، ولُب هذه العلاقة هو الحكم العلماني، مع أن ما هو أعمق من الحكم العلماني في الشمال والجنوب وهو- كما نرى- أن هدف الجنوب أن يقيم علائق أوثق مع الغرب وإسرائيل على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية، ولا يهم الجنوب في كثير أو قليل قيام حكم إسلامي أو علماني في الشمال، اللهم إلا إذا كان من أهداف هذه الأحزاب إقامة علاقات وطيدة مع الغرب وإسرائيل على مستوى ما يحدث في الجنوب على يد الحركة الشعبية، وهي علاقات تشمل كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية. وفي النهاية نخلص إلى أن استمرار الخلافات والصراع على السلطة بين المؤتمر الوطني وأحزاب المعارضة، لن يتحمل نتائجه الوخيمة إلا هذه الأحزاب جميعاً دون استثناء، أما الملايين من أهل السودان فهم بُراء من هذه الخلافات والصراعات التي لا ينتهي بها المطاف إلى خير مستدام يغمر أهل السودان كلهم، ويهيىء لهم حياة أفضل وأكرم وأعدل. ولا ينقص الشمال ولا الجنوب من الموارد الطبيعية الهائلة مما لا مثيل لها في كثير من دول العالم وأكاد أقطع أن ما قاله في الأسبوع الماضي وزير النفط السوداني د. لوال دينق بأن النفط في الشمال أكثر من ما هو كامن في أرض الجنوب، وكذلك ما جاء في تقارير مؤسسات اقتصادية عالمية مختصة في مجال المعادن، من أن السودان - شماله وجنوبه - غني بأنفس المعادن، وأن هناك شركات إقليمية وعالمية تتدافع بالمناكب للاستثمار في السودان وإن كل ذلك الذي لم توله أجهزتنا الإعلامية ما هو جدير بالتعليق والاستطلاع على مستوى أهل التخصص وعلى مستوى الشارع، أنها هو إشارة لافتة لمستقبل السودان الواعد. على أني أكاد أجزم أن كثيراً من السياسيين ومن بعض الكُتّاب قد تزعجهم مثل هذه الأخبار، فهي الدليل الدامغ على أن أكثر من خمسين عاماً مضت على تغييب ثروات السودان الطبيعية على أيديهم ومحاولة صرف أنظار الناس عنها تحت وابل من الشعارات والأنانية والمكايدة وعشق الذات وسائر ما لا يمت بصلة إلى قضية التنمية وهي القضية التي نطق بها عبد الخالق محجوب- لأول مرة- وهو نائب في برلمان 1967م حيث قال بالحرف: إن القضية المركزية هي التنمية بهذا الطريق أو ذاك وأكبر الظن أن سكرتير الحزب الشيوعي وقتها وهو يخاطب البرلمان شعر بأن هذا البرلمان لا صلة له لا بديمقراطية مزعومة ولا تنمية.