{ بعد الآن علينا أن نخلع ملاءة الأحلام ولا ننام. فما عادت السنوات تسمح بفضفاض الأيام وترهل الحلول ومناقشات المواضيع الساخنة ببرود أعصاب، ولا عاد الوقت يقضي لك ما تيسر من أمر أو شأن؛ أنه أوان الحسم ووضع الأمور في نصابها الصحيح بما يتناسب معها من أهل اختصاص وخبرة. لهذا حينما شدّت الرسالة على الهاتف النقال خيط الانتباه في عيني عقدت عزمي - الكسول - على الذهاب الى مباني وزارة الثقافة لحضور المنتدى الدوري لرواق الطفل الذي يعتبر واحداً من أذرع مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم. وكان العنوان (دور التراث في التربية والتعليم) هو البوابة الرئيسية للدخول الى يوم الخميس الماضي، فبدأ صباحنا على صوت الأستاذة (بثينة خضر مكي)، الروائية المعروفة وعضو لجنة الثقافة بالمجلس الوطني، وهي تقرأ لنا ما بحثته حول التراث ودوره التعليمي لمحاولة إيجاد الحلول لكثير من قضايانا المصيرية. كتبت على ورقتها: (إن التعليم النظامي داخل المدارس هو وسيلة ابتُدعت من أجل الوصول الى تنظيم وتشكيل شخصية مواطن قوي له المقدرة على شق طريق ناجح في الحياة الأكاديمية والعلمية مع توثيق هذه الشخصية بمتطلبات آمنة من عقيدة ونمط ديني وأخلاقي يكون حاجزاً بينه والانزلاق في خيانة دولته أو الانحطاط بها الى مدارك سحيقة تضر بالمجتمع الذي يعيش فيه. إن لكل دولة خصوصيتها الجغرافية والتاريخية والعقائدية وهذا هو الذي شكّل ماضي الأسلاف وحضارتهم التي تركوها خلفهم التي تجعل لكل مجتمع خاصية اجتماعية معينة تتمثل في تراث الأمة ويتشكل هذا في الآداب والفنون والملابس والزينة وطرق سبل العيش وكل ما يتعلق بحياة الفرد الشخصية. لهذا يكون من المهم جداً أن يعرف أبناء السودان ثقافات بلادهم المختلفة وأن تشكل هذه الثقافات بدرجة متساوية المنهج التربوي في الدراسة الأكاديمية المنتظمة التي ترعاها الدولة منذ بداية المراحل الأولى للتعليم المدرسي. ولابد من التخطيط ليكون توظيف إدخال التراث القومي بطريقة شمولية كدعامة أساسية في التعليم). { هذا ملخص لأهم ما جاء في ورقة الأستاذة (بثينة خضر) التي ناقشتها من بعد ذلك الأستاذة (آمال سراج) الإعلامية المعروفة والحبوبة المحبوبة - كما أسمتها الأستاذة (أسماء) مقدمة المنتدى - ورغم أن حديثها كان مشحوناً بالعواطف تجاه ما أصبح عليه الحال بالنسبة للأجيال السودانية ذاكرة بلهجة عامية محببة (انحنا موزعين لقبائل وبيوتات كل زول فينا مفتكر السودان حق أبوه وده ما صاح، ومع ده بتلقى إنو الإعلام متجاهل الشخصيات السودانية العظيمة، معقولة البلد دي بتاريخها الكبير ده مافيها بطل يستحق يُكتب عنو مسلسل؟ المؤسف إنو السياسة بقت هي الأهم من كل شيء وبقت هي القطة الأكلت أبنائها). واختتمت حديثها بتساؤل: (زمان كانوا بيودونا رحلات مدرسية للمناطق الأثرية والمصانع، هسه مشروع زي سد مروي معقولة ما تتعمل ليه رحلات مدرسية أو جامعية؟ ما ده اقتصاد وده إنجاز ودي الإنقاذ). ولم نكن نحتاج الى الوقت لينقذنا من الكي الذي عالجت به الورقة والمناقشة أوجاعنا تجاه التعليم والتراث لهذا لم تلتزم كل المداخلات بالزمن المحدود بدقيقتين فقط فكلنا نود ترك الأحلام لنصحو، لنعرف الواقع على أحرّ حقائقه، التي تتلخص في أن أزمتنا الماثلة في خوفنا الحالي من إجراء استفتاء متوقعة الى حد ما نتيجته، ما هي إلا نتاج التغول على ثقافة الآخرين وعدم احترامها بمعرفتها؛ فنحن لا نعرفنا حق المعرفة، لا نعرف سودانيتنا كما يجب، إننا نجهل القيم الحقيقية للشخصية السودانية، ليست تلك التي يحاول المزايدون طرحها على سوق المزادات الوطنية باعتبارها منقولات من السعف والخشب وبعض الزي القومي الملون، إنما الماثلة في قيم السودانوية الحقيقية بالمعنى الواضح للفّة التوب أو العمة والمعنى الرمزي لسقوطها أو لفها على الوسط، بتعليم صغارنا قيمة الأعمال اليدوية وليس البكاء على زمن (البِرِش والطبق) بتدريسهم حقائق الموروثات الشعبية المنقولة عبر الأمثال والحكم ليس ليكونوا كما كان جدودنا زمان لكن لأنها قيم تصلح لكل زمان ومكان. بالضرورة نحن مع التقدم والتطور لكن ليس الذي يسلخ عننا جلدنا ويلبسنا زيّاً لا نعرف لماذا صُنع أو كيف؟ وقد وعدت الأستاذة (بثينة خضر) بتحويل كل المداخلات إلى ورقة لتناقش في جلسة من جلسات المجلس الوطني بالتوجيه لإدخال التراث ضمن المقرر الدارسي النظامي، وفي ذلك خلع كامل لثياب النوم وارتداء الصحيان وعدم التكتُّم والسكوت عن الحقائق والضرورات التي جعلت بلدان العالم تمضي ونحن نتراجع الى تقسيمات وتناحرات غبية، وهو نموذج لمحاولة دحض السالب من القيم بما هو أجمل، فكما استشهدته مثلاً (الراكوبة مي ضرا) سنحاول أن نجعل تراثنا، عبر تعليمه للأجيال بقيمه الفاضلة والسمحة، هو الضرا والسلام الذي سيقينا حر الانفصال وشر النوم في راكوبة الأحلام.