(من هؤلاء النسوة المتشحات بالسواد؟).. ضحك كل الموجودين في صالة العرض المسرحي لمسرحية (الواد سيد الشغال) لجملة الفنان (عادل إمام) متهكماً بها وقتها على الأفكار المتكررة للمسلسلات الدينية، واستمر الضحك لكن علينا هذه المرة كلما عرض مسرح الشارع العام مسرحية العباءات، فقد صرنا جميعنا نمثل النسوة المتشحات بالسواد! ووضعنا ثيابنا السودانية على حواف السرائر تنتظر ميقات النوم، فقد تحولت من ثوب ساتر إلى غطاء ليلي، فهي كذلك غير ثقيلة كالبطانية، كما أنها تمنع الباعوض من النزول على جلدك، وفي ذات الوقت تمنح الجسد حرية التنعم بالهواء الليلي المشبع بنسائم الشجر والورود وأنفاس النجوم، وتحافظ بعد كل هذا على الفكرة الأساسية التي من أجلها صنعت وميّزت جنسيتنا السودانية بالثوب والجلابية؛ بأن يكونا ساترين للجسد وأيضا فضفاضين وسامحين للهواء بالدخول والخروج ملتفاً في مساماتنا بلا داع لذكر الملامح! فما الذي حلّ بنا فجأة لنترك الثوب في المنزل ونسرح بأسود العباءات تغطي الملابس التي تحتها وتترك المعالم للهواء وباعوض النظرات فيلسع ما شاء من مساحات ويدمي ما يريد من ملامح؟! وتدافع بعض السيدات بأن العباءة سريعة التحضير فليس لديها أبدا مقادير متعددة كما الثوب الذي يمكن أن يحتوي على الأقل بين ثلاث إلى خمس قطع تحته حتى يكتمل مقداره كثوب، ناهيك عن ضرورة التوازن اللوني بين الملبوسات التي تحته مع التي فيه! كما أن العباءة تصلح لكل زمان ومكان.. إلى آخر ما يمكن أن نخترعه لتبرير فعلتنا النكراء وتمرير شحنة جديدة من بضاعة العباءة. أما الجديد في عالم العباءات غير تلك المغلقة على آخرها أو المتاح لبسها عبر زرار مضغوط أو التي يمكن أن تلبس من كل الاتجاهات أو المفتوحة عن آخرها وملمومة باليد اليمنى أو اليسرى ثم يمكنها الانفتاح على خيالك أو هوائك الخ.. هناك العباءة التي تحمل طرحتها نفس لون وخامة عباءتها كنوع من التحايل على الهوية السودانية كثيرة الاحتجاج على (وينوية) الثوب - وهذا مصطلح مخترع لمعنى (وين) - فهذه العباءة تخدع النظر لوهلة بأن المرأة متشحة بثوبها ولم تهجره منزلياً، ثم اذا أمعنت النظر - المتهم أصلا بالنظر - ستكتشف حزينا أنها عباءة لا غير، لكن من صنع بلد آخر يعرف من أين تؤكل كتف النساء المتشحات بالعباءات، وقد برع تجار السوق المحلي هنا بمنحها أسماء علنية للبيع وأخرى خفية تتناسب والملامح النسائية لمن ترتديها! (ما ترتدينه يخصك)، هذه هي النظرية الحديثة لمن يردن التظاهر بمجاراة الموضة وجذب الانتباه اليهنّ بأنهنّ مالكات زمام الأناقة في المكان الذي يلجنّ إليه، وتركت النظرية السودانية القديمة التي كانت تدافع عن الذوق العام ببساطة المثل (تأكل البعجبك وتلبس البعجب الناس) أليس هذا الكلام قمة الذوق والأتيكت؟ فما تلبسه نتذوق طعمه بدلاً عنك، لكن ما تأكله فبطنك وحدها ما تستطعمه أو لا تستسيغه، فما الذي عكس المثل وأصبحنا نأكل ما يعجب الناس من أشهى المأكولات اللبنانية والسورية والإيطالية والتركية والهندية وال ... ونلبس ما يعجبنا أيضاً من العباءات الهندية إلى الخليجية مروراً بالجلابية المصرية، وتركنا الثوب السوداني مكوما على وجهه يبحث عن رفيقته الجلابية يؤانسها في حبسهما الانفرادي، وتهوّن الجلابية على الثوب مرارة الهجر والحرمان من الخصر الذي كان يلتف عليه برفق ويقالده بحزم، ومن الكتف الذي كان يحمله على الاعتدال والرفعة، ومن الرأس الذي كان يغطيه بدقة واتزان لا يختلف عليها اثنان. { مداخلة: (وفي ذات ملاحظة قديمة أوان المعارضة وبرنامج ساحات الفداء كانت تعرض لقطة للسيدة (فاطمة أحمد إبراهيم) وهي تحيي الجيش الشعبي، وكان من يقرأ تقرير الصورة يندد بخيانتها لوطنها، وكنت فقط أنظر وأستمع إلى أنها رغم كل العواصم والعوالم المتحررة التي زارتها وكانتها لم تنزل ثوبها من رأسها حتى وهي تنحني لتحية جيش الحركة الشعبية !) وشعبنا من النساء برع في الخروج عن النص المكتوب لمسرحية أو رواية الثوب وكتبن وأسسن جمالياً لفكر العباءة باعتبار أنها هي الزي النموذج لما يجب أن تكون عليه السيدة المحترمة والملتزمة اجتماعياً ودينياً. بل ذهبت كثير من المنظمات الطوعية والجمعيات والاتحادات إلى التظاهر بالمهرجانات والمعارض الدائمة والمؤقتة لترسيخ فكرة العباءة بكافة الألوان والمقاسات - حتى للصغيرات غير الملزمات شرعيا بزي - وسخرت أسعار العباءات من ثمن الثوب في حقائب النساء وشحبت ألوانه فحاول هو أن يجاري الحداثة بأن يخفّ ويشفّ فربما يعيد إليه آنساته وسيداته الأول وربما ينجح في إقناعهنّ بلعنة العباءة التي تنشرها سيدات الزمن الجميل بمقولة ساخرة (عباية السواد والرماد السجمت البنات وبشتنت الأولاد) !