{ أحياناً كما قيل «الناس على دين ملوكهم» نجد بعض الأقلام التي تكتب أو تلك التي تحاور أو تحقق نجدها تشطح في خدمة السياسة التحريرية للصحيفة التي تعمل فيها فتقع في أخطاء كارثية أولى ضحاياها المهنية وذكاء هذه المهنة الشريفة الجليلة وهي تشهد على الناس وعصورهم، قفز إلى ذهني هذا النوع من التفكير وأنا أطالع حواراً أجرته الصحفية تيسير حسين النور بصحيفة الانتباهة الصادرة يوم 24/10/2010م مع اللغوي السوري محمد حسان الطيان الذي يزور البلاد هذه الأيام في مهمة تدريبية، حاولت الأستاذة انتزاع شهادة سلبية من الرجل في حق عربي جوبا فكررت عليه السؤال حتى خرجت بما يشبه الذم وقد اشترط وسألها وأطلق كلاماً عاماً يحتمل كل شيء فعمدت الأستاذة إلى تصدير حوارها بهذ العبارة «عربي جوبا إذا شوّه العربية ينبغي الحد منه!» وقد فهمت أن الأستاذة حاولت خدمة السياسة التحريرية للصحيفة ولكنها بهذه الطريقة نجدها قد أساءت للصحيفة ووضعتها في موضع المعادي لكل ما هو جنوبي وهذه ليست الحقيقة، ثم إن «عربي جوبا» يعد من الفتوحات الثقافية لنشر وبقاء الثقافة العربية وزحفها نحو العمق الأفريقي، ويخدم الأمة أكثر من اللغة العربية الفصيحة ومن مؤسسات ضخمة لها ميزانيات مهولة تعمل في خدمة اللغة والثقافة العربية والإسلامية ومجالات الدعوة المختلفة. { فلا السائل ولا المجيب في هذا الحوار لهما المعرفة الكاملة ب «عربي جوبا» وأبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية وكيف نشأ تلقائياً وتغلغل في جنوب السودان دون تخطيط لغوي حتى أضحى اللغة الوحيدة التي تجمع بين كافة قبائل جنوب السودان ويحرص عليها قادة الحركة الشعبية لتعينهم على مخاطبة كافة شرائح المجتمع الجنوبي وهي لغة المعاملات اليومية في الأسواق واللغة السائدة وسط قوات الحركة الشعبية وهي لغة الإذاعة والتلفزيون في كبرى مدن الجنوب وقد تجذرت للدرجة التي تجعلها تواصل سيطرتها على الجنوب حتى بعد الانفصال وإلى ما لا نهاية تسند بعض المظاهر الأخرى للثقافة الشمالية في جوانب الأزياء والطقوس الاجتماعية في الأفراح والأتراح والفنون الجنوبية على مستوى المسرح والأغنية وهذه كلها، حتى وإن ذكّرت المؤنث وأنثت المذكر تعد من الجواهر الثمينة التي ستعيد الجنوب ومن البوابة الثقافية إلى حياض الوطن أو على الأقل تنسج وصالاً وتواصلاً بين شعبي الشمال والجنوب، ولهذا يجب أن نفهم هذه اللغة من هذه الزاوية التي تتكسر أمامها النحويات والسجع والبيان وما شاكل ذلك من شكليات حاصرت العربية وحرمتها من انتشار أوسع من هذا الذي نشغله «عشان كدا ما تدخلوا دا في دا» ونختبر أسلحتنا أمام وافد له لهجاته الشامية التي تفعل فعلها في اللغة العربية على شاشات الفضائيات العربية وهي تقدم المسلسلات التركية وتكسب مساحات داخل الوطن العربي على حساب لهجات محلية بما فيها الدارجة السودانية التي بدأت تكتسب بعض المهارات والبهارات الشامية «ويا حليل اللهجة المصرية وهي تتقهقر أمام الشامية بطعميها السوري واللبناني وكمان شايف الخليجية بدأت ترفع رأسها» كل ذلك في ظل حرب اللهجات العربية وهي تصارع بعضها البعض. { «عربي جوبا» ثروة أممية يجب العمل للحفاظ عليها وقد نتجت بفضل التجار الشماليين وموظفي الخدمة المدنية وبعض العرب الذين وفدوا للجنوب من شرق أفريقيا وقد بدأت رحلة تجذرها منذ القرن التاسع عشر الميلادي عجزت «57» سنة من الاستعمار البريطاني التبشيري وسياسة المناطق المقفولة عن محاصرتها وهي في الأساس خليط ما بين لغة الباريا التي منحتها الأصوات والجرس الموسيقي واللغة العربية التي منحتها المفردة العربية. { إهمال الجانب الثقافي بالرغم من النموذج القوي وهو «عربي جوبا» والانشغال بالسياسة هو ما أفضى إلى ما يشعر به الجنوبيون الآن من اختلاف بينهم وبين إخوتهم الشماليين وهو ما يحملهم على المطالبة بالانفصال وأذكر يومها وأنا أستمع لأستديو التلفزيون في تغطيته لوقائع التوقيع على اتفاق نيفاشا وقد تحدث كل من بالأستديو عن أفكاره لجعل الوحدة جاذبة وانحصر حديثهم في تنمية الجنوب وإنشاء الطرق والجسور والمطارات والمستشفيات إلا واحداً ظل صامتاً وهو من النخب الجنوبية وعندما طلب منه الحديث قال بالحرف الواحد «إنكم سلكتم الطريق الخطأ إلى الوحدة وهو الطريق الذي سلكته الحكومة من بعد طريق الوحدة هو الطريق إلى دماغ المواطن الجنوبى، المعركة معركة ثقافية أقنعوه بأننا حاجة واحدة، مصيرنا واحد، كلامنا واحد.. دا طريق بودي للوحدة لكن كلام بتاعكم دا بجعل الانفصال جاذب، أنت بعد ما تبني لي بيت بتاعي ليه أكون جزء منك أحسن أكون براي وأنت ما كلمتني نحنا حاجة واحدة».