أمس الخميس الموافق 28 أكتوبر مرت 41 سنة على حادث كاد يعصف بوحدة الثوار المايويين الذين كانوا وصلوا إلى الحكم قبل ذلك التاريخ بانقلاب عسكري كان على قيادته اللواء أركان حرب جعفر محمد نميري وكانت الحكومة برئاسة رئيس القضاء بابكر عوض الله. ففي زيارة قام بها بابكر عوض الله إلى ألمانياالشرقية أطلق تصريحاً عجيباً غريباً منافياً للحقيقة صادما للشعور العام الرافض للشيوعية فقد قال رئيس الوزراء ما معناه (إنه ما كان لثورة مايو أن تقوم وما كان لها أن تنتصر لولا الشيوعيون). ولم يكن ذلك صحيحاً .. فالحزب الشيوعي السوداني كان يعارض قيام الانقلاب الشيوعي والذين نفذوا الانقلاب العسكري فجر 25 مايو 69 لم يكونوا شيوعيين ولم يكن للضابطين الشيوعيين اللذين اختيرا عضوين في مجلس قيادة الثورة وهما المقدم بابكر النور سوار الذهب والرائد هاشم العطاء أي دور في تنفيذ ذلك الإنقلاب. ولكن لأن الإنقلاب كان تقدمياً ويسارياً ولأنه كان للحزب الشيوعي السوداني حضور فاعل وسط القوى الحديثة وفي الشارع التقدمي عموماً كان من الذكاء والبراجماتية أن يضم منفذو الانقلاب ضابطين أو حتى أكثر من المنتمين للحزب الشيوعي الى مجلس قيادة الثورة. ورغم ذلك فقد كان هذا الوجود الشيوعي المحدود في مجلس قيادة الثورة مثيراً لبعض القلق والتوجس في وطن غالبيته الكاسحة ضد الشيوعية والشيوعيين. ومؤكد أن رئيس الوزراء بابكر عوض الله كان يعرف كل هذه الحقائق لكنه رغم ذلك أدلى بتصريحه الغريب العجيب المنافي للحقيقة في ألمانياالشرقية. وكان مجلس الثورة له بالمرصاد فسرعان ما أصدر بياناً وكان مما جاء فيه (إن ثورة مايو لم يقم بها الشيوعيون وأنها ثورة كل السودانيين). وأصدر قراراً بإعفاء بابكر عوض الله من رئاسة الوزراء وتقلدها اللواء نميري وظل رئيساً لمجلس الوزراء حتى نهاية عهده في أبريل 1985 باستثناء بضعة شهور تولى فيها رئاسة مجلس الوزراء الأستاذ المحامي الرشيد الطاهر بكر رحمة الله. وقد مر بابكر عوض الله بعد التصريح إياه وهو في طريقه إلى الخرطوم على القاهرة والتقى (بصاحبه) الرئيس عبدالناصر ويقولون إنه عاتبه على التصريح وطلب منه أن يصححه وأن يعتذر للرئيس نميري. وقبل التصريح كان القاضي بابكر عوض الله واسع النفوذ في مجلس الوزراء وداخل مجلس الثورة وقد كان نائباً لرئيسه وكان قوي الشخصية معتداً بنفسه وبسيرته الذاتية التي تضمنت رئاسته لمجلس النواب الأول الذي اعلن الاستقلال منتصف الخمسينيات ورئاسته للقضاء ودوره في ثورة أكتوبر. ولكن بعد التصريح وبعد إقالته من رئاسة مجلس الوزراء أخذ دوره ينكمش مع الأيام .. رغم أنه بعد استفتاء أكتوبر الرئاسي أصبح نائباً أول لرئيس الجمهورية ولكن كان واضحاً منذ ذلك الوقت أن السلطة الفعلية كلها أصبحت بيد الرئيس نميري .. ثم بعد فترة وجيزة استقال بابكر عوض الله وأقام بمصر ثم عاد إلى الوطن من بضعة أعوام. والسؤال قائم حتى الآن .. هو لماذا أطلق سياسي كبير في رجاحة عقل بابكر عوض الله وفي اتساع فهمه للواقع السياسي السوداني مثل ذلك التصريح العجيب الغريب الذي كان نقطة البداية لنزوله من قمة النفوذ السياسي والسلطة التنفيذية مع أصدق الأمنيات له بالصحة والعمر الطويل فهو صفحة أو صفحات غير قابلة للشطب من كتاب تاريخنا التشريعي القضائي التنفيذي السيادي المعاصر.