ليس بمقدور أحد أن يُجرد البروفيسور حسن مكي من الأدوار الفعالة التي لعبها عبر مراحل بناء الحركة الإسلامية السودانية، فالأستاذ حسن مكي، الأكاديمي الأشهر، مدير جامعة أفريقيا العالمية، المتخصص في شؤون القرن الأفريقي، يعتبر واحداً من الذين ألهبوا حماس هذا الجيل الإسلامي عبر الكتابات والندوات واللقاءات المتلفزة وغير المتلفزة، وأحد الذين جعلوا مشاعر الثورة تحتدم في صدور الشباب لدرجة خروجهم في المتحركات يبتغون الموت في سبيل الله ثم الأوطان في كل مكان، فحسن مكي واحد من عناوين عقد التسعينيات الجهيرة، وما زلنا نحفظ كثيراً من المواقف التي سجلها للأجيال والتاريخ عبر مجلة الملتقى التي كان يرأس تحريرها الراحل عبدالمنعم قطبي، يرحمه الله رحمة واسعة، تلك الأشجان التي تدفقت وسالت تحت ظلال «ذكرياتي مع الحركة الإسلامية» فروت ظمأ بعض الأجيال اللاحقة التي كانت تتوق إلى معرفة أسرار مراحل تشكل هذه الحركة في الجامعات والاتحادات، فقرأناها بل ومشيناها خطى كتبت علينا.. ومن كتبت عليه خطى مشاها، رحلة الأستاذ حسن مكي من مدينة الحصاحيصا إلى جامعة القرن الأفريقي عبر أنشطته الطالبية الباهظة ودراسته اللندنية وبعثته الشهيرة إلى جمهورية إيران الإسلامية، فيكفي حسن مكي أنه قد أخذ بيد طالب إسلامي تونسي مطارد من بلاده، أخذ بيده إلى جامعة أفريقيا العالمية في بادئ الأمر للدراسة، ثم بعد التخرج أخذ بيده إلى العاصمة البريطانية لندن، فالطالب التونسي محمد الهاشمي الحامدي الذي دخل لندن خائفاً يترقب من فراعنة هذا الزمان، فقد أصبح فيما بعد أحد رسل الإعلام العربي، كما لو أن القوم يستمدون قوتهم وتوكلهم يومئذ من قصة وسيرة سيدنا موسى عليه السلام، كما أخبر الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم «فَإِنْ خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ»، إلى أن يبلغ أمر الغلام مقام «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرسَلِينَ»، فإذا بالشاب التونسي الذي دخل لندن خائفاً يترقب يصبح في فترة وجيزة واحداً من أشهر صناع الإعلام العربي المهاجر، حتى بدأ بصناعة «جريدة المستقلة» ثم مجلة الدبلوماسي ففضائية المستقلة، ولما بلغ أشده دعاه الرئيس التونسي ليعينه وزيراً للإعلام في بلده، لكنه يرفض هذا العرض المحدود ويمارس دوره الأممي الكبير كوزير وسفير لكل الإعلام الشرقي بالغرب الكبير. كتب الأخ الأستاذ عادل الباز يوماً قائلاً (حرصت في زيارتي إلى لندن أن أزور الأستاذ الحامدي لأقف على الإمكانيات التي يدير بها كل تلك الأنشطة الأممية، قال فوجدته يمتلك فقط «جهاز كمبيوتر وفاكس وامرأة صالحة»)، لكن حديثنا ليس عن الأستاذ الهاشمي وإنما عن الأستاذ حسن مكي، وإن كان الهاشمي يعتبر نموذجاً جيداً «لمنتجات الأستاذ حسن مكي الفكرية التي دخلت الأسواق». ومن طرائف حسن مكي في لندن كما ورد في حديث الشجون والذكريات، قال «لقد أهداني أحد الإخوان الباكستانيين دستة قمصان إذا رأيتها تحسبها قميصاً واحداً لكنها تختلف في بعض خطوطها»، قال لما رجعت للسودان طفقت ألبس تلك القمصان واحداً بعد الآخر، لما أوقف يوماً الأخ الأستاذ تيجاني عبدالقادر أحد الاجتماعات قائلاً «يا جماعة تعالوا نشتري قمصان لحسن مكي، فمنذ أن عاد من بريطانيا وهو يلبس قميصاً واحداً»، يقول حسن مكي فحكيت لهم قصة القمصان المتشابهة. لكن البروفيسور حسن مكي الذي تخصص في هذا «القرن الأفريقي الفاشل»، أي على الأقل أن دولة من دوله تحمل لقب «دولة فاشلة» ألا وهي دولة الصومال: بل هنالك أكثر من دولة في قرن حسن مكي مرشحة لنيل اللقب ذاته، فبدأ حسن مكي في أفكاره في الفترة الأخيرة يتقلب ويمور كما يتقلب هذا القرن الأفريقي، فحسن مكي قد خرج على الخط العام للحركة الإسلامية قبل حادثة الانفصال الشهيرة، ثم لم يظهر في كشوفات أي من المؤتمرين اللدودين، لكني أكتب هذا المقال بمناسبة أحدث إفادة له للإعلام، حيث قال منذ يومين لهذه الصحيفة «إن الشريعة الاسلامية مطبقة في ليبيا الآن أفضل من السودان»، وهذا ما لم يقل به الأولون ولا الآخرون، فجماهيرية الرجل الواحد بالكاد تحتكم إلى «الكتاب الأخضر» فتستمد منه شرعيتها وشريعتها، وللذين يقرأون بتطرف أنا لم أقل إن الشريعة مطبقة في السودان لدرجة نموذج «الدولة العمرية»، لكنني على الأقل يمكن أن أزعم أن النسخة التي بين أيدينا هي أفضل ألف مرة من «نسخة الكتاب الأخضر»، وربما يُعذر الرجل بأنه متخصص في «القرن الأفريقي» وليس في دول حوض البحر الأبيض المتوسط. فيا أستاذ حسن مكي، أنت الذي أدخلتنا وحرضتنا وألهبت مشاعرنا، وأنت ذاتك الآن الذي تخرجنا وتحرجنا، فما لنا نصبح كالتي نقضت غزلها؟، فلماذا لا نسد الثغرات وننكر المنكرات ونتماسك وننهض من جديد!؟