يبدو أن كل ما ترغب فيه أحزاب المعارضة قد أثبت الواقع عجزها عن إمكانية تحقيقه بالوسائل المقبولة، لذلك ظلت تلجأ دائماً إلى المضي في الاتجاه المغاير لمسيرة الإجماع الوطني. ولكن بنفس القدر هناك لوم وعتاب لأحزاب الحكومة نفسها، التي لم تستطع أيضاً أن تبعث بخطاب إجماع وطني جامع، وهذا هو الواقع الخلافي المستمر للأحزاب، سواء أكانت حكومة أم معارضة، وهذا الواقع هو واحدة من نتائج التجربة السودانية السياسية العريضة الممتدة، التي شكلت متناقضات الساحة السياسية، فخلال العقد الأول من تاريخ السودان السياسي؛ عرف أهل السودان الانقلابات العسكرية والانتفاضات وأشكال الحكم الانتقالي والديمقراطي والتمرد، وقبل ذلك اختلفوا على الاستقلال نفسه، لذلك ليس من المنصف أن نحسب هذا الواقع على مجموعة من المجموعات، لأنه واقع عرفه السودان قبل استقلاله، ومنذ ذلك الوقت ظل يشكل هذا الواقع مداخل لتدخلات أجنبية ومحاولات الهيمنة والسيطرة على ثروات البلاد، وبالتأكيد ما أحاط بكل هذا في تجربتنا العريضة؛ هو يحيط الآن بتجربة الاستفتاء وتقرير المصير، فهل قضية الوحدة والانفصال ستمضي بنا عكس اتجاه الإرادة السياسية والوطنية؟ سؤال مع عدد من الأسئلة المهمة طرحناها على القيادي السياسي والديني الأسقف قبريال روريج، وزير الدولة بوزارة الخارجية الأسبق، وأمين الدائرة الأفريقية بمجلس الصداقة الشعبية، ورئيس دائرة بحر الغزال الكبرى بالمؤتمر الوطني، وذلك في هذا الحوار الذي ننشره في حلقتين، حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال: { مع كل ما سمعنا ونشاهده الآن، هل يمكننا القول إن الوحدة صارت بعيدة؟ - حقيقة، وبكل أسف، أقول إن حظوظ الوحدة باتت ضعيفة مهما ذرفنا الدموع وأطلقنا الحديث المعسول هنا أو هناك. { هل مؤتمر الأحزاب الجنوبية الذي شاركتم فيه ناقش ملامح العلاقة بين الشمال والجنوب بعد الاستفتاء، إذا سلمنا جدلاً بأن الأمور تسير نحو الانفصال؟ - المؤتمر الجنوبي الجنوبي بالفعل ناقش هذه الناحية، وهناك توصية بذلك، وأقر ضمن توصياته أنه إذا كان هناك انفصال فلا بد من حسن الجوار بين الدولتين؛ لأن هناك تداخلات كثيرة بين الشمال والجنوب، ومصالح اقتصادية مشتركة، فأنابيب البترول مثلاً هي تسير نحو الشمال. { الآن الكل يقول إنه لا حرب مهما كانت النتائج، ولا تأجيل للاستفتاء، ولكن الحوار حول ترسيم الحدود وأبيي ما زال بعيد النتائج، بل والطريق هنا مسدود من كل الأطراف، كيف العمل إذن؟ - هذا كله يعود للمؤتمر الوطني والحركة الشعبية فهما وقعا على قيام تقرير المصير في السودان في يوم 9 يناير من العام 2011م، فلماذا الاشتراطات والتلويح بعدم القيام إذن؟ ولماذا الربط بين القضايا من قبل المؤتمر الوطني؟ ولماذا أيضاً تصر الحركة الشعبية على عدم التأجيل؟ فهذا كله مؤشر واضح على وجود تناقض هنا، فالشعب السوداني لو عاد إلى الحرب بسبب الحدود أو غير ذلك من الأسباب؛ فستكون هذه انتكاسة غير مرضية للشعب ولرسالة الأديان، ففي مؤتمر رجال الدين الإسلامي والمسيحي الذي انعقد مؤخراً؛ تم التأمين على عدم العودة إلى الحرب مهما كان الخلاف حول أبيي، وفحوى هذا الحديث، وهذه التوصية من مؤتمر رجال الدين تم تحويلها إلى اللجنة القومية للاستفتاء، فمن ينادي بالحرب الآن هو يغرد خارج التاريخ، ولا يملك أية رؤية للمستقبل. { إذن، لماذا الحديث عن أن تمديد زمن موعد الاستفتاء صار مشكلة؟ - حقيقة هناك قيادات جنوبية سبق وطالبت رئيس الحركة الشعبية ودعته إلى النظر في عملية تمديد موعد الاستفتاء وقدمت آراء منطقية هنا، وأذكر هنا مساعي قام بها مولانا بونا ملوال، وكثير من القيادات، فهؤلاء كانت آراؤهم أن الزمن بات ضيقاً، وبالتالي علينا النظر في التمديد قليلاً، ولكن كما قلت الحركة الشعبية لم تستمع لهذا القول ولم تستجب لهذه النصائح، والمؤتمر الوطني نفسه ليس مع تمديد زمن الاستفتاء، بل ولا يقبل أي حديث عن التمديد، ولا أعرف ما هي الحكمة والسر في ذلك، ولكن مع كل ذلك أقول إن الحرب مستبعدة؛ لأن هذا سيفتح الباب لغضب منظومة الأممالمتحدة والمجتمع الدولي، مع العلم أن السودان مستهدف أصلاً. { مؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي للأحزاب الذي شاركت فيه كل الأحزاب وتزامن ذلك مع قيام كيان معارض لبعض قوى الأحزاب الشمالية في لندن، هل هناك ثمة إشارات للضغط على السلطة؟ ونقصد هنا «الإنقاذ» بهدف تطويقها أو الانقضاض عليها؟ - «الإنقاذ» منذ يومها الأول هي مستهدفة، وبعض القوى السياسية غير راضية عنها، ولكن ليس هناك أي مخطط مرسوم لإزاحتها من السلطة، فمؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي موضوعاته جميعها تخص الجنوب ومشاكله وتنميته والرؤية المستقبلية هنا، ومسألة الاستفتاء، وهذه هي خلاصة ما هدف إليه المؤتمر، وهو ركّز أيضاً في مسألة الاستفتاء على ضرورة أن يكون حراً ونزيهاً. { ما يترتب عليكم كجنوبيين داخل المؤتمر الوطني، هل يشبه ما يترتب الآن على قطاع الشمال داخل الحركة الشعبية؟ - نعم، حالنا يشبه حالهم من حيث المصير والمستقبل السياسي. { إذا كانت نتيجة يوم 9 يناير القادم هي انفصال الجنوب، فهل ستكونون وأقصد هنا الجنوبيين داخل المؤتمر الوطني والشماليين داخل الحركة الشعبية في مركب واحد من الحيرة وحالة التوهان السياسي؟ - في الحقيقة أصلاً نحن في مركب واحد، فهم يعانون من مشكلات هناك، ونحن نعاني هنا أيضاً، فموقفنا السياسي لم يتحدد بعد، فهم من المفترض أن يكونوا حزب الحركة الشعبية في الشمال، ونحن من المفترض أيضاً أن ننشئ حزب المؤتمر الوطني في الجنوب، وهذا سيكون بالنسبة إلينا جيداً. فإذا تحقق الانفصال فليس لنا عمل سياسي سيكون في الشمال، وحينها سينتهي عملنا السياسي هنا، ولنضرب مثلاً هنا بمصر فقديماً كان الحزب الوطني الاتحادي هناك، وعندما حدث الانفصال بين السودان ومصر؛ الحزب الوطني الاتحادي عاد إلى البلاد وكون حزباً بذات الاسم، وهكذا مصيرنا سيكون سياسياً، فالجنوبيون داخل المؤتمر الوطني بعد الانفصال سيعقدون مؤتمراً جامعاً في الجنوب لتأسيس حزب المؤتمر الوطني الجنوبي هناك ككيان جديد. { لقد كنت وزير دولة بوزارة الخارجية لمدة ليست بالقصيرة، ما هو تقييمك للموقف المصري من عملية الوحدة أو الانفصال؟ - بالتأكيد مصر لن تقف ضد رغبة الجنوبيين إن كانت النتيجة هي الانفصال. { في عهدك، أي عندما كنت في وزارة الخارجية، يشهد لك التاريخ السياسي المعاصر القريب بأنك قمت بطرد السفير البريطاني من الخرطوم في حادثة اعتبرت شجاعة وفريدة من نوعها لدولة في العالم الثالث تقدم على مثل هذه الخطوة، وذلك بعد السلوك غير الدبلوماسي من السفير في مواقف شتى آخرها كان السعي لخلق مشاكل دينية في السودان من خلال تأثيره السلبي على الزيارة التاريخية التي كان سيقوم بها كبير أساقفة كانتر بري إلى السودان، فالسؤال: هل بريطانيا ما زالت نواياها سيئة تجاه السودان؟ - بالتأكيد، كل مشاكل السودان سببها بريطانيا، وما زالت أياديها ضالعة في هذه المشاكل، والآن بريطانيا تتبنى احتضان لوبي من قدامى العاملين في السودان لبحث مشاكل وقضايا السودان، وهذه خطوة خبيثة من بريطانيا. والبريطانيون هم وراء خيار الانفصال كرغبة تاريخية بالنسبة لهم. أما عن حادثة طرد السفير البريطاني الشهيرة؛ فهو كان يستحق فعلاً هذا الطرد، لأن أساليبه كانت انفصالية ومعادية للسودان، وسعى لخلق مشكلة دينية في السودان، وهدفه كان زرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في السودان، والآن البريطانيون نقلوا عملهم السياسي جميعه إلى الجنوب بهدف تحقيق الانفصال. فالبريطانيون شغلهم الشاغل الآن وقديماً هو انفصال الجنوب. { هل غياب الايديولوجيا في الجنوب سيهزم سياسات الدولة الجديدة إذا قامت؟ - لا، الأيدولوجيا موجودة في شكل الدولة العلمانية، فالحركة الشعبية بدأت أصلاً بالمعسكر الاشتراكي منذ أيام منقستو هايلا مريم الرئيس الإثيوبي السابق. { بوصفك أيضاً وزير الدولة للخارجية الأسبق؛ هل من المأمول حدوث دور من الآن وحتى الاستفتاء للمحور العربي باعتبار أنه لا يشجع الانفصال؟ - غير مأمول ولا متوقع أي دور إيجابي تجاه الوحدة أو الانفصال من المحور العربي في الأسابيع المقبلة الدقيقة والحساسة. { مؤتمر الأحزاب الجنوبية الأخير رفض دعوة القوات الدولية فهل كان هناك إجماع على هذه الخطوة؟ - نعم، كان هناك إجماع لدرجة أنها سُحبت تماماً من التوصيات والقرارات.