خريجي الطبلية من الأوائل    لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استفتاء جنوب السودان: الأهم فالمهم .. بقلم: الدكتور لام أكول .. ترجمة: غانم سليمان غانم
نشر في سودانيل يوم 18 - 09 - 2010


ترجمة: غانم سليمان غانم**
[email protected]
يمر السودان بأكثر مرحلة حرجة فى تاريخه الحديث وسيواجه فى مقبل الأيام أصعب اختبار علي الإطلاق. فى أقل من عشرين أسبوعا سيتعرض السودان لاختبار يظل بعده إما موحدا أو ينفصل الإقليم الجنوبي منه بموجب ترتيبات وإجراءات اتفاقية السلام الشامل. إنني لا أنوي أن أتناول فى هذا المقال ايجابيات وسلبيات كلا الخيارين لأنه من السابق لأوانه التحدث عن ذلك طالما إننا لم نهيئ بشكل دقيق المسرح السياسي لذلك لأنه حسب اعتقادي فإن الجمهور المستهدف هنا هم مواطني جنوب السودان. إن هذه الدعوة موجهة لكل من مناصري الوحدة ودعاة الانفصال والتي يمكن تشبيهها بدعوة مشجعي فريقين يلعبان فى مباراة نهائي دوري كرة قدم ينبغي ان لا تنتهي بتعادل. إن مدربي الفريقين يودون رؤية الإستاد أو الملعب الرياضي ممهدا بشكل لا يكون لصالح أي واحد منهما وأن يكون متسعا بشكل كافي لاستيعاب مشجعي الفريقين إلي جانب أغلبية المتفرجين المحايدين الذين يرغبون فقط فى مشاهدة لعبة جميلة. إن لاعبي ومشجعي كلا الفريقين بغض النظر عن حماسهم الطاغي لكسب المباراة يجب أن يكونوا حريصين علي عدم ارتكاب أخطاء قد تؤدي إلى إلغاء المباراة التي عملوا بجد من أجل الانتصار فيها. لذلك، يطلب من مناصري معسكري الوحدة و الانفصال، علي حد سواء، السعي لخلق جو ايجابي مشجع لأجراء استفتاء نزيه وشفاف وحر. علي أية حال، إنني أري أن الجو السائد الآن مخالف لذلك. فى غياب جو ايجابي مشجع فإن شرعية نتيجة الاستفتاء ستكون مشكوك فيها وهذا بدوره سيجر البلاد إلى هاوية لا قعر لها لا يعلم عمقها إلا الله. وإننا نسال الله أن يجنب السودان المحن المختلقة محليا والنزاعات التي يؤججها فينا الآخرين.
يتناول هذا المقال مبدأ حق تقرير المصير والأسباب التي جعلت الجنوبيين يفضلونه كخيار وكيف دخل المسرح السياسي السوداني؟ وكيف تم التعبير عن هذا الحق فى اتفاقية السلام الشامل؟ وكيف أسهمت الحكومة خلال الفترة الانتقالية فى تحقيق أهداف اتفاقية السلام الشامل فى هذا الخصوص؟ وفى خاتمة المقال سأقترح المطلوبات التي تجعل عملية ممارسة حق تقرير المصير نزيهة وحرة وشفافة لأجل ضمان الاعتراف بنتيجته مها كانت. سأبدأ بالاستشهاد بأقوال اثنين من السياسيين الجنوبيين المخضرمين الذين لعبا دورا كبيرا فى المسرح السياسي السوداني والذين فصلت بينهما مدة تبلغ نصف قرن. الاستشهاد الأول من خطبة للقس المبجل الأب ساتورنينو لوهور ألقاها أمام البرلمان الثاني فى الخرطوم فى عام 1958م والاستشهاد الثاني من خطبة ألقاها الدكتور جون قرنق. قال الأب ساتورنينو لوهور:"ليس للجنوب نية فى الانفصال عن الشمال وإذا كان ذلك هو الهدف فإنه لا يوجد شيء علي الأرض يمكن أن يمنع المطالبة بالانفصال. سينفصل الجنوب من الشمال فقط عندما يقرر الشمال ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال اضطهاد الجنوب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا"؛ مقتبس من خطبة للأب ساتورنينو لوهور ألقاها أمام البرلمان الثاني فى الخرطوم فى عام 1958م.
تم هذا التصريح بواسطة الأب ساتورنينو لوهور عندما كان هو ورفاقه يطالبون بالفيدرالية. بالطبع، هناك بعض الناس اتهموه باعتباره انفصاليا، وكانت هذه الخطبة ردا علي هذا الاتهام. أما بالنسبة للدكتور جون قرنق الذي يعتبر التزامه بوحدة السودان أمر غير مشكوك فيه من جانب السياسيين الشماليين فقد قال: "أنا والذين انضموا إليّ فى الغابة وحاربوا لأكثر من عشرين سنة أتينا لكم باتفاقية السلام الشامل في طبق من ذهب. لقد أنجزنا مهمتنا. لقد حان الآن دوركم خاصة أولئك الذين لم تتاح لهم الفرصة لممارسة حياة الغابة. عندما يأتي الوقت للتصويت فى الاستفتاء، فإنها فرصتكم الذهبية لتحديد مصيركم. هل تريدون ان تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية فى بلدكم؟ بالتأكيد أنه اختياركم"؛ مقتبس من خطبة للدكتور جون قرنق دي مابيور، رمبيك، جنوب السودان 15 مايو 2005م.
إن هذين التصريحين الذين يتم الاستشهاد بهما كثيرا يعكسان المدى الذي يتم فيه خلط التصورات بالواقع عند التعامل مع مشكلة جنوب السودان وهو أمر يزيد من تعقيد فهم الأسباب الرئيسية للمشكلة وبالتالي تقديم توصيف حلول واقعية يصعب تحقيقها.
خلفية تاريخية عن مطالبة الجنوبيين لحق تقرير المصير
يمكن ان تعزي مطالبة الجنوبيين لحق تقرير المصير إلي سببين: السبب الأول هو السياسات الاستعمارية تجاه جنوب السودان والسبب الثاني متعلق بممارسات الحكومات المركزية السودانية تجاه جنوب السودان. من المعلوم أن الإدارة فى جنوب السودان خلال الحقبة الاستعمارية مرت بثلاث مراحل. مرحلة تثبيت الحكم (1899-1920م) التي اعتمدت الإدارة الاستعمارية خلالها علي شيوخ القبائل بما كان يعرف بالإدارة الأهلية. المرحلة الثانية كانت إدارة مستقلة لجنوب السودان فى عشرينيات القرن العشرين وحتى الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب العالمية الثانية غيرت السلطات الاستعمارية سياستها لصالح توحيد شطري البلاد. بدأت هذه السياسة باجتماعات عام 1946م التي أعقبها مؤتمر جوبا فى عام 1947م. كل من هذه المراحل الثلاثة كان لها إسهامها فى تشكيل تصورات ومفاهيم المواطنين الجنوبيين فيما يتعلق بحقوقهم. فى ظل الحكومات الوطنية أثرت بعض التطورات والممارسات علي العلاقات بين الجنوب والشمال. يمكن تقسيم هذه المرحلة إلي عدة مراحل على النحو التالي:
أ - مرحلة عدم تمثيل جنوب السودان (1953-1955م) سواء فى المجالات السياسية أو الإدارية أو الخدمة المدنية بما فى ذلك فترة السودنة.
ب - مرحلة الحكم المركزي من 1955م وحتى 1964م.
ج - مرحلة الاعتراف بقضية جنوب السودان (1964-1965م). حكومة السيد سر الختم الخليفة - التي أتت إلي السلطة بعد ثورة أكتوبر - كانت أول حكومة تعترف بقضية جنوب السودان عندما أصدرت بيانا تضمن الاعتراف بالمشكلة. أشار البيان إلي أن المشكلة كانت سياسية بأسباب يجب مناقشتها لأجل الوصول إلي الحل السياسي السلمي المطلوب. قبل ذلك كانت الحكومات السابقة تصف المشكلة بأنها مؤامرة مدبرة من الإدارة الاستعمارية. أعقبت حكومة أكتوبر الكلمات بالأفعال بعقد مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة جنوب السودان فى الخرطوم فى مارس 1965م. علي أية حال، أجهضت الأحزاب التقليدية هذه المبادرة الوطنية.
د - مرحلة اضطهاد المثقفين الجنوبيين والثقافات الجنوبية (1958-1964م، 1965-1969م) تمتد هذه المرحلة لفترتين: فترة حكم الفريق عبود والفترة التي أعقبت انتخابات 1965م. سادت موجة من المشاعر المريرة جدا خلال هذه الفترة خاصة خلال الفترة من عام 1965 وحتى 1969م عندما تبنت الحكومة إجراءات قمع فى غاية القسوة شملت مجازر فى جوبا و واو (يوليو 1965م) وفى أجزاء أخري من الجنوب حيث تم استهداف المثقفين الجنوبيين والثقافات الجنوبية. هذه الممارسات أثرت سلبيا علي العلاقات بين الجنوب والشمال. خلال حكم الفريق عبود الديكتاتوري، أصر النظام علي فرض اللغة العربية والدين الإسلامي فى جنوب السودان باعتقاد خاطئ بأنه يمكن تحقيق وحدة البلاد فقط عبر ثقافة واحدة ودين واحد. تلك كانت هي الفترة التي أشيع فيها بأن الجنوبيين يستهدفون الثقافة العربية والإسلام. من المعلوم انه عندما اندلعت الحرب لم تكن حربا دينية أو عنصرية. علي كل، هذه الممارسات جعلت الناس يزعمون بان الجنوبيين كانوا يحاربون الثقافة العربية والإسلام. ولاقت الدعوة للانفصال زخما خلال هذه المرحلة.
ه - الاعتراف بالقضية للمرة الثانية ( 9 يونيو 1969م، 1971-1972م) تم الدخول فى هذه المرحلة بإعلان 9 يونيو 1969م بعد أقل من شهر عقب انقلاب مايو العسكري. لقد أحيط هذا الإعلان بغموض حيث أنه تضمن بندا يربط حل مشكلة جنوب السودان بظهور ناشطين (كادر) ديمقراطي فى الجنوب يلتحم مع نظرائه الشماليين. فسر الشيوعيون فى مجلس قيادة الثورة مصطلح "الكادر الديمقراطي" بأنه يعني "الشيوعيين". تم حل هذه القضية فقط بعد دحر انقلاب الرائد هاشم العطا فى عام 1971م. بعد ذلك بدأت محادثات جادة بين الأنيانيا والحكومة توجت باتفاق أديس أبابا فى فبراير 1972م.
و - مرحلة الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان (1972-1983م). كانت هذه أول مرة يحكم الجنوبيون أنفسهم بأنفسهم. أوضحت هذه الفترة أن جنوب السودان ليس بأقل تنوعا من عموم البلاد. خلال مرحلة الحكم الذاتي دخلت فكرة أن جنوب السودان يمثل كتلة/جبهة متجانسة، كما كان الحال خلال الحرب، فى تحدي. خلال الحرب كان أمرا مسلما بأن الجنوبيين يمثلون كتلة/جبهة واحدة باعتبارهم مختلفين عرقيا وثقافيا من الشمال. علي أية حال، عندما تولى الجنوبيون السلطة لمدة 11 عام بدأ بعض الجنوبيين فى الشكوى من مظالم مارسها عليهم أشقاؤهم الجنوبيين.
ز- مرحلة إجهاض اتفاق أديس أبابا والحرب الثانية (1983-1985م، 1985-1989، 1989-2005م). خلال الفترة الأولي من هذه المرحلة وصل إحباط الجنوبيين وفقدان الثقة بين الجنوب والشمال قمته. وغذت التطورات والأحداث التي جرت مشاعر الظلم التي ولدت مطالب الجنوبيين المرتبطة بالحصول علي حقوقهم التي تكفل لهم مستقبلا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أفضل. ماذا كانت مطالب الجنوبيين؟
تطور مطالب الجنوبيين
بدأ الجنوبيون بمطالب بسيطة مقتصرة على المشاركة فى الخدمة المدنية. أولاً: طالب الجنوبيون بمساواة الأجور بين الجنوب والشمال نظرا لأن الجنوبيين كانو يتلقون أجورا أقل من الشماليين لنفس الوظائف. كان هذا خلال الحكم الاستعماري خاصة فى أربعينيات القرن العشرين وحتى بواكير الخمسينيات من القرن العشرين. لقد طالب الجنوبيون بحصة عادلة فى وظائف الخدمة المدنية خلال مرحلة السودنة فى عام 1955م. وعندما تم سودنة 800 وظيفة طالب الجنوبيين بأربعين (40) وظيفة ولكنهم منحوا فقط ستة (6) وظائف. كانت الطبيعة العامة لهذه المطالب اقتصارها علي المشاركة فى الخدمة المدنية ولكنه فى خمسينيات القرن العشرين تم ربطها ببعض المطالب السياسية. بعد ذلك جاءت المطالبة بالمشاركة علي المستوي السياسي. بدأ ذلك بالحديث عن توفير ضمانات تكفل عدم تضرر جنوب السودان من وحدة شطري البلاد نظرا لقلة المتعلمين فى جنوب السودان. فى خمسينات القرن العشرين بدأ الساسة الجنوبيون بالمطالبة بتطبيق الفيدرالية (الفيدريشن) كأفضل حل لمشكلة الحكم. علي كل، واجهت المطالبة بالفيدرالية معارضة شديدة من قبل الحكومات الوطنية المتعاقبة حيث أنها ساوت الفيدرالية بالانفصال.
أول مرة تم فيها تقديم فكرة تقرير المصير كانت فى أواخر عام 1964م بعد ثورة أكتوبر بواسطة جبهة الجنوب نظرا لأن الأنيانيا طالبت بالانفصال منذ عام 1963م بينما كان ساسة جنوبيين آخرين من أمثال سانتينو دينق وفلمون ماجوك يطالبون بوحدة مركزية. كان تصور جبهة الجنوب هو أن الطريقة الديمقراطية الوحيدة للتوفيق بين كل هذا المرئيات هو ممارسة حق تقرير المصير حتى يختار مواطنو جنوب السودان النظام الذي يرونه مناسبا لهم. قدمت جبهة الجنوب طلبها بحق تقرير المصير فى مؤتمر المائدة المستديرة فى عام 1965م ولكن تم رفضه تماما بواسطة الأحزاب الشمالية التي كانت تعمل بمثابة كتلة واحدة فى ذلك المؤتمر.
كانت فترة الحكم الذاتي (1972-1983م) تمثل ذروة التزام الجنوبيين بوحدة البلاد ويمكن وصفها بالفترة الذهبية للوحدة. كانت هذه الفترة تمثل المرة الأولي التي يصبح فيها الجنوبيون مرتبطين بالوحدة ومنخرطين فى الدفاع عنها. أكد ذلك العلاقة العضوية بين المشاركة فى الحكومة والدفاع عن تلك الحكومة. لقد كان الجنوبيون فى ذلك الوقت الأكثر دفاعا عن الوحدة. لقد قاموا بتعظيم قدر الوحدة فى كل مناسبة عامة للمدى الذي تم فيه تسمية حقول النفط والمصارف والميادين باسم الوحدة. حتى أن قادة الأنيانيا أكدوا بأن الرئيس النميري كان أفضل رئيس وجدوه وأنه كان هبة من الله. إنهم كانو نفس الأشخاص الذين كانوا يقولون فى المنتديات العامة قبل اتفاق أديس أبابا أن: "أفضل العرب هو من مات منهم". كانت المعارضة السودانية (الجبهة الوطنية) فى ذلك الوقت ناشطة فى معارضة النظام الحاكم. علي أية حال، ورغم كل ذلك، لم تتخذ المعارضة موقفا مختلفا فيما يتعلق بالوحدة. ولذلك، يمكن أن القول بأن موقف الحكومة والمعارضة كان متطابقا ومتسقا فيما يتصل بوحدة السودان.
مما ذكر باعلاه، يمكن أن نستنتج بأن الجنوبيين كانوا يطالبون بتمثيل عادل فى السلطة والذي تطور من مساواة الأجور مرورا بضمانات تكفل عدم تضرر الجنوب من الوحدة وصولاً إلى المطالبة بالحكم الفيدرالي. إن وصف الحرب باعتبار أنها حرب ضد الثقافة العربية والإسلام لم يكن إلا مجرد رد فعل ولم يكن موقفا أصليا بحسب ما أوضح سابقا الأب ساتورنينو لوهور فيما يتصل بالانفصال. إن المطالبة بحق تقرير المصير بواسطة الجنوبيين نشأت فى مرحلة لاحقة فى ستينيات القرن العشرين كنتيجة حتمية للسياسات الفجة للحكومة المركزية فى ذلك الوقت تجاه مطالب الجنوبيين.
تصدع فى وحدة الجنوبيين
أثبتت فترة الحكم الذاتي خطأ نظرية أن قضية الجنوبيين هي محاربة العرب وأن الجنوبيين يمثلون كتلة/جبهة متماسكة توحدها ثقافة واحدة وتوجه سياسي واحد. لقد أثبتت هذه النظرية خطأها خلال تلك الفترة عندما طالب مواطني المديرية الاستوائية فى عام 1982م بأن يتم طرد وترحيل الجنوبيين من غير مواطني الاستوائية إلي خارج المديرية الاستوائية، وهي عملية عرفت ب" كوكرا" بلغة قبيلة الباريا. فى آخر الأمر، تم إجبار الجنوبيين من غير مواطني المديرية الاستوائية علي الرحيل منها وقد مات العديد منهم وهم فى الطريق إلى بلدانهم بسبب الظروف المناخية غير المواتية. علي كل، لم يتم طرد العرب وبذلك أصبح العرب أقرب إلى مواطني الاستوائية (دعاة الكوكرا) من الجنوبيين الآخرين من المناطق الأخرى فى بحر الغزال وأعالي النيل. ولذلك، فإن القول بأن المشكلة هي فقط بين الشمال والجنوب هو خطأ فادح حيث أنه توجد هناك اختلافات بين الجنوبيين أنفسهم. وبناء علي ذلك، وفى إطار الاستفتاء يجب أن نناقش العلاقات بين الجنوب والشمال وكذلك العلاقات بين الجنوبيين.
إن الهدف الأساسي من وراء اتفاقية السلام الشامل هو إنهاء الحرب وأن أي من خياري (الوحدة والانفصال) سيؤدي إلى تعزيز واستمرار السلام. ولذلك؛ إذا رجعنا للحرب فهذا يعني إجهاض الهدف من اتفاقية السلام الشامل. وبناء على ذلك، لا ينبغي أن يكون الاهتمام فقط منصبا حول إجراء الاستفتاء لكأنما انفصال الجنوب أو وحدة السودان هما نهاية المشكلة. إن المسألة التي تستحق عناء تفكيرنا هي عما إذا كان اختيارنا سيحقق السلام المنشود سواء كان السلام الجنوبي- الجنوبي أو السلام بين الجنوب والشمال. من المؤسف أن نفس الأخطاء التي أدت إلي المناداة بالكوكرا (ترحيل الجنوبيين من غير مواطني الاستوائية إلي خارج المديرية الاستوائية) فى عام 1982م يتم تكرارها بواسطة حكومة جنوب السودان الحالية التي تقودها الحركة الشعبية لتحرير السودان. يجب التذكر بأن دعاة الكوكرا كانوا يتحدثون عن هيمنة قبيلة معينة علي السلطة فى الجنوب. وكان قائدهم، اللواء جوزيف لاقو، قد نشر كتيبا تضمن بعض الرسوم البيانية التي توضح عدد الوزراء والمدراء العامين فى الوزارات من تلك القبيلة مقارنة ببقية قبائل جنوب السودان. وقد وصل اللواء لاقو إلي استنتاج مفاده بأن القبيلة المذكورة تمارس الهيمنة علي السلطة وتقوم بتهميش القبائل الأخرى. يمكن الآن كتابة مثل ذلك الكتيب بكل سهولة وبشكل أكثر وضوحا مما كانت عليه حملة الكوكرا فى عام 1982م. وبناء علي ذلك، إننا عندما نتحدث عن تقرير مصير جنوب السودان ينبغي علينا أن نعرف غايات وأهداف الناس ويجب ضمان وحدة الجنوبيين فى هذا الخصوص.
الدرس المستفاد من تجربة الحكم الذاتي هو أنه ينبغي للجنوبيين الجلوس معا لمناقشة شئونهم والاتفاق علي مستقبل السودان بغض النظر عن نتيجة الاستفتاء نظرا لأن الاعتماد علي نظرية مؤامرات الأعداء الخارجيين لم يعد بعد مجديا. هذه النظرية بالرغم من أنها فعالة فى تحفيز المشاعر وإلهاب الحماس سريع الزوال لكنها لا تستطيع الصمود أمام الواقع الحياتي. إن الانفصال، إذا كان هو الاختيار، لا يعنى التخلص من الشمال بل هو بالأحرى يعنى التخلص من الممارسات الخاطئة التي أثبتت تجربة حكومة جنوب السودان أنها يمكن أن تمارس بواسطة الشماليين والجنوبيين علي حد سواء. خلال الخمس سنوات الماضية لم يتدخل الشمال فى الجنوب برغم الاتهامات المتكررة بأن الشمال هو مصدر جميع المشاكل التي تحدث فى الجنوب. علي أية حال، فإن الواقع مخالف لذلك. هل الشمال مسئول عن الفساد المتفشي فى الجنوب؟ لقد تلقت حكومة الجنوب مبالغ كبيرة ولكن هل انعدام الخدمات فى الجنوب مؤامرة شمالية؟ هل رفض ممارسة الديمقراطية فى الجنوب من صنع الشمال؟ ينبغي علينا ان نكون أكثر واقعية وموضوعية عند تناول مشاكلنا وتجنب البحث عن كباش فداء لإخفاقاتنا. لا تبنى الدول بالهروب من الواقع بل بمجابهته وتحديه. هناك العديد من تجارب الدول الأخرى التي يمكن الاستفادة منها. فى مايو 1947م، كانت شبه الجزيرة الهندية (الهند وباكستان) على عتبة الاستقلال. انفصلت باكستان من الهند بدعوي أنها بلد مسلم يختلف من الهند الهندوسية. علي كل، لم يمنع التجانس الديني انفصال شرق باكستان فى عام 1971م بعد حرب شرسة لتصبح بنجلاديش الحالية. انطبق نفس الشيء علي الصومال التي ينعدم فيها التنوع. ينحدر الصوماليين من قبيلة واحدة ولهم دين واحد ولغة واحدة ورغم هذا التجانس لم يعرف الصومال الاستقرار منذ الإطاحة بنظام سياد بري فى أوائل التسعينيات من القرن العشرين. من كل ذلك يتضح أنه ينبغي للجنوبيين صياغة خارطة طريق مستقبلهم وتجنب الانسياق بالاملاءات الواردة من وراء البحار. ينبغي أن تعالج خارطة الطريق الواقع فى جنوب السودان وليس تصورات وأوهام "الأصدقاء".
تقرير المصير والحركة الشعبية لتحرير السودان
تقرير المصير هو الوسيلة الديمقراطية لحسم مسألة الوحدة والانفصال بشكل نهائي وللأبد. بعبارة أخري، لا يمكن ممارسة حق تقرير المصير فى غياب الديمقراطية.
أعلنت الحركة الشعبية لتحرير السودان، عند تأسيسها فى عام 1983م، أنها حركة وحدوية بحسب ما هو مبين فى البيان التأسيسي (المانيفستو) الذي أصدرته. هذا التوجه الوحدوي لقي مساندة كبيرة فى الشمال الذي لم يكن يتوقع من حركة جنوبية المطالبة بالوحدة معه. علي أية حال، لم تقم الحركة الشعبية لتحرير السودان ببذل أي جهد لتعزيز هذا التوجه الوحدوي علي ارض الواقع. لم تقم الحركة الشعبية لتحرير السودان بعمل سياسي مكثف وسط المحاربين لتغيير المفاهيم الانفصالية للجيش الشعبي لتحرير السودان الذي تم استقطاب عناصره من المزارعين والرعاة. كان التركيز الرئيسي منصبا علي العمل العسكري. إضافة إلي ذلك، خضع النضال السياسي للجناح العسكري ومنذ ذلك الوقت مارس الجناح العسكري الهيمنة علي العمل السياسي. إنها أول مرة فى العالم يقوم فيها الجناح العسكري بتوجيه الفكر السياسي بخلاف الحال بالنسبة لما هو معروف فى الحركات الثورية.
فى ذلك الوقت كانت القيادة والجيش يتحدثان لغة مختلفة نظرا لأن الأغلبية كانت تساند الانفصال بينما كانت القيادة تدعو للوحدة. كان الجيش الشعبي لتحرير السودان يعبر عن توجهاته الانفصالية فى الأغاني المبثوثة فى إذاعة الجيش الشعبي لتحرير السودان. بحلول نهاية الثمانينيات من القرن العشرين كان من الواضح جداً أن الهيمنة كانت للتوجه الانفصالي ولكن قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان أصمت أذنيها عن ذلك. الجهاز القيادي الوحيد، "القيادة العليا السياسية والعسكرية للحركة الشعبية"، لم يعقد أي اجتماع منذ إنشائه. علي سبيل المثال، منذ تعيينا (الدكتور ريك مشار، جيمس واني، دانيال أويت، يوسف كوة وشخصي) فى 1 يوليو 1986م وحتى الانشقاق فى عام 1991م لم تعقد القيادة العليا السياسية والعسكرية أي اجتماع. كان الجنوبيون فى الجيش الشعبي لتحرير السودان يقولون أنه لا يمكنهم تحرير جميع السودان ولا يمكنهم كذلك تقديم أبناءهم فداء لتحرير الشمال عندما كانت المعارك تجري فى الكرمك وقيسان والمناطق الأخرى. علاوة علي ذلك، عندما لم ينضم الشماليون للحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان استنتج الجنوبيون (فى الجيش الشعبي) أن الشماليين غير مهتمين بالحركة الشعبية لتحرير السودان ومشروعها الوحدوي. كان هذا الحديث سائدا بين جنود ومنسوبي الجيش الشعبي لتحرير السودان وكنا نسمعه منهم باعتبارنا قادة ميدانيين. فى ذلك الوقت، كان عدد الشماليين من الشمال الأقصى الذين انضموا للحركة الشعبية لتحرير السودان لا يتجاوز عدد أصابع اليدين. العدد الأكبر من الشماليين الذين انضموا للحركة والجيش الشعبي كانوا من المناطق المجاورة للجنوب مثل جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وهذا لم يكن تمثيلا حقيقيا للشمال. لم تناقش الحركة الشعبية لتحرير السودان هذه المسائل لأجل اتخاذ القرارات بشأنها نظرا لأن المؤسسة الوحيدة المسئولة عن ذلك تركت بلا عمل حسب ما ذكر أعلاه. كان هذا هو السبب الحقيقي للانشقاق الذي تم فى الناصر فى عام 1991م. لقد أردنا ان نتيح الفرصة لجميع أعضاء الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان لإبداء آراءهم حول هذه المسائل المهمة. لذلك، اعتقدنا أن الطريق الوحيد لاستيعاب الرؤى الوحدوية والانفصالية يتم من خلال ممارسة حق تقرير المصير لجنوب السودان. إنها الآلية الديمقراطية التي تمكن الناس من اختيار النظام المناسب لهم. نظرا لانعدام الديمقراطية داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان، تم الانشقاق حينئذٍ. هذه خلفية تاريخية لمطالبة الحركة الشعبية لتحرير السودان بحق تقرير المصير.
من المعروف أن الدافع الرئيسي لأي حرب تحرير هو الرغبة فى تحقيق الديمقراطية وإقامة حكومة تستجيب لرغبات الناس. لم تكن الثورة الأمريكية ضد البريطانيين فى القرن الثامن عشر بسبب الاختلافات بين الأمريكيين والبريطانيين. علي العكس، شُنت الثورة بواسطة سكان الساحل الشرقي، المعروف ب "نيو انجلاند" أي التي تعتبر نسخة من انجلترا الأصلية. لقد كان سكان نيو انجلاند منحدرين عرقيا من نفس الأصول الانجليزية حيث أنهم ينتمون للسلالة الانجلو- ساكسونية. لقد شُنت الثورة ضد بريطانيا لأن الأمريكيين لا يريدون أن يتم حكمهم بواسطة حكومة نائية لا تستجيب لرغباتهم. لذلك، فإن المشكلة ليست فى الانتماء العرقي أو القومية نظرا لأن القومية الأمريكية ظهرت لاحقا. بنفس الروح شعر الجنوبيون بأن حكومات الخرطوم كانت نائية عنهم و لا تستجيب لمطالبهم لذلك رفعوا السلاح ضدها. لقد كان حق تقرير المصير رغبة المواطنين الجنوبيين التي لم تستجيب لها الحكومات المتعاقبة فى الخرطوم. يجب التركيز على أن حق تقرير المصير يمكن ممارسته فقط فى ظل الديمقراطية. هناك هدفان يكمنان فى المطالب الجوهرية لحق تقرير المصير: الهدف الأول هو السعي للتعبير الذاتي والوعي الذاتي بينما الهدف الثاني هو إيجاد حكومة تمثل مختلف المجتمعات التي تشكل سكان البلاد وتستجيب لمطالبهم.
عندما تُضعِف العوامل التاريخية أو السياسات الحكومية المتعمدة بعض المجتمعات بينما تسمح لأنصارها فقط بتنظيم أنفسهم، كما كان الحال فى ألمانيا النازية بعد الحرب العالمية الأولي، يتم إضعاف مقومات الديمقراطية. إن التنوع الاجتماعي هو عامل اجتماعي مهم و يمثل أحد مقومات الحكم الديمقراطي. وبناء علي ذلك، يجب أن تكون الحكومة فى الجنوب ممثلة لكافة المجتمعات فى الجنوب حتى تكون مقبولة للجميع. إنني اعتقد بأن نفس المسائل المطروحة بخصوص التنوع بين الشمال والجنوب يمكن ان تطرح بنفس القوة إذا نفصل الجنوب نظرا لأن الانفصال لا يمكن أن يتجاهل التنوع.
إجماع السودانيين حول مبدأ تقرير المصير
أول اتفاق حول تقرير المصير تم إبرامه بين الحكومة و الحركة الشعبية لتحرير السودان كان فى يناير 1992م فى فرانكفورت بألمانيا وقد كان بين الحركة الشعبية لتحرير السودان- جناح الناصر وحكومة الإنقاذ وبعد ذلك تم الاعتراف به من قبل الأطراف السياسية الأخرى. لقد اتفق جناحا الحركة الشعبية لتحرير السودان عليه فى أبوجا 1993م، وهذا الاتفاق أدي إلي الانقسام بين كل من وليم نون والدكتور جون قرنق حول هذه المسألة حيث أن وليم نون وافق علي تقرير المصير بينما فضل الدكتور جون قرنق الوحدة. فى عام 1994م وقع حزب الأمة و الحركة الشعبية لتحرير السودان- جناح توريت فى شقدوم اتفاقا تضمن الاعتراف بتقرير المصير. فى عام 1995م تضمن إعلان اسمرا كذلك تقرير المصير نظرا لأن كل الأحزاب المنضوية تحت راية التجمع الوطني الديمقراطي تبنت هذا الحق. وبذلك فإن جميع القوي السياسية السودانية وافقت علي حق تقرير المصير لجنوب السودان ولا يمكن لأي حزب عدم الاعتراف بتقرير المصير. بناء علي ذلك، أصبح حقا مكتسبا لجنوب السودان ولا يمكن لأي أحد إنكار حق الجنوب فى ممارسته وكذلك أي حزب فى السلطة - مهما كان - إن كانوا يوفون بالعهود.
تقرير المصير فى اتفاقية السلام الشامل
حق تقرير المصير ليس مجرد تاريخ متى ما حل سيذهب الناس للتصويت وينتهي كل شيء. إن الذين طالبوا بحق تقرير المصير قاموا بذلك باعتقاد أنه سيتم توعية الناس بشكل تام بمعني تقرير المصير ونتائج كل من خياري الوحدة والانفصال حتى يختاروا وهم واعون بالكامل معنى ونتائج تقرير المصير. ينبغي علينا أن نبين للناس هذين الخيارين: لماذا خيار الوحدة ولماذا خيار الانفصال؟ عندما تناولت اتفاقية السلام الشامل حق تقرير المصير ذكرت أشياء محددة يجب تحقيقها قبل الاستفتاء. أولا: تقرير المصير فى اتفاقية السلام الشامل كان محاولة لحسم الخلاف حول فصل الدين عن الدولة أو العلاقة بين الدين والدولة. لذلك نصت اتفاقية السلام الشامل على أن يكون للشماليين الحق فى تطبيق الشريعة الإسلامية فى الشمال شريطة أن يكون للجنوبيين حق تقرير المصير. بناء علي ذلك، فإن المطالبة بدولة علمانية كشرط وحيد لتحقيق الوحدة يعنى المطالبة بإعادة التفاوض حول الاتفاقية نظرا لأن الطرفين اتفقا بالفعل بأن يطبق الشمال الشريعة بينما يطبق الجنوب القوانين المستقاة من إجماع الناس والأعراف بما فى ذلك المعتقدات الدينية. لم تنص اتفاقية السلام الشامل علي الإطلاق علي العلمانية ولم يتم ذكر كلمة "علماني" علي نطاق عموم الاتفاقية. ثانياً: تم صياغة الاتفاقية بحيث تحكم الحركة الشعبية لتحرير السودان الجنوب بمفردها لإعطائها الفرصة الكاملة لتطبيق أفكارها لتمهيد المسرح أما لوحدة عادلة مع الشمال أو الانفصال علي أساس صلب. ثالثا: اتفق الطرفان علي العمل بشكل مشترك لتحقيق وحدة البلاد وجعلها جاذبة للجنوبيين. هناك إجراءات معينة نصت عليها الاتفاقية لتحقيق ذلك سيتم ذكرها لاحقا.
الفريد فى اتفاقية السلام الشامل - مقارنة بالاتفاقيات المماثلة عالميا - هو أن الاتفاق حول تقرير المصير تم بعدم وقوف طرف مع الخيار الآخر وهو الانفصال. علي أية حال، لا تنكر الاتفاقية علي الآخرين حق تبنى الانفصال. أي طرف أو مجموعة أو فرد بخلاف الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الوطني له الحق الكامل بموجب اتفاقية السلام الشامل للعمل لتحقيق أي من الخيارين.
أطروحتان تم التخلي عنهما فى مشاكوس
بناء على ما ذكر أعلاه، فإن أطروحة أو مشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان المتعلقة ببناء "السودان الجديد" تم التخلي عنها فى مشاكوس نظرا لأن العلمانية تمثل جوهر مفهوم "السودان الجديد". فى بروتوكول مشاكوس ضحت الحركة الشعبية لتحرير السودان بأطروحة "السودان الجديد" واختارت "تقرير المصير". وافقت الحركة الشعبية لتحرير السودان بأن الشمال الذي يمثل ثلثي البلاد سوف يحكم بالشريعة الإسلامية وهذا يعنى أن ثلثي البلاد خارج مظلة العلمانية. لذلك من الواضح أن أطروحة السودان الجديد تم التخلي عنها. قد يحتج ويدعي شخص ما بأن هذا تخلي مؤقت عن الأطروحة. هذه الحجة غير صحيحة نظرا لأن خيار الوحدة المضمن فى الاستفتاء يقبل بالفعل ديمومة واستمرارية اتفاقية السلام الشامل. يمكن فقط تعديل اتفاقية السلام الشامل بموافقة الطرفان قبل مصادقة ثلاثة أرباع المجلس الوطني. بعبارة أخري، إذا أردنا تطبيق العلمانية يجب تعديل الاتفاقية وهذا بدوره يتطلب موافقة المؤتمر الوطني، وهذه مسألة لا خلاف عليها. وبالمثل تم كذلك التخلي عن أطروحة أو مشروع "التوجه الحضاري" فى مشاكوس حيث انه كان يهدف إلى تطبيق الشريعة فى عموم البلاد ويمتد إلي ما وراء حدود السودان. وإذا أريد تطبيق الشريعة الإسلامية فى جنوب السودان، ينبغي تعديل الاتفاقية وهذا يتطلب موافقة الحركة الشعبية لتحرير السودان وهذا حلم بعيد المنال حتى لأكثر المتفائلين تسامحا.

المسرح غير مهيأ للاستفتاء
إن الأجواء الحالية غير مشجعة لإجراء الانتخابات نظرا لاقتراب انتهاء الفترة الانتقالية بينما حكومة جنوب السودان وحكومة الوحدة الوطنية لم تستوفيا المتطلبات الضرورية لممارسة تقرير المصير. البند 7/1 من برتوكول اقتسام السلطة العائد لاتفاقية السلام الشامل ينص علي اتفاق الطرفين علي مباشرة عملية المصالحة الوطنية علي نطاق البلاد كجزء من عملية تعزيز السلام التي تقودها حكومة الوحدة الوطنية. حتى الآن، وبعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية السلام الشامل، لم ير المواطنون الطرفين يقومان بالعمل بشكل مشترك بتنويرهم حول الاتفاقية بطريقة تحقق آمال المواطنين وجعل الوحدة جاذبة. علي العكس، ما حدث هو خلاف ذلك. نجحت الحركة الشعبية لتحرير السودان في حشد وتعبئة المواطنين في جنوب السودان ضد المؤتمر الوطني بتصويره باعتباره عدوا بدلاً من أن يكون شريكا للمدى الذي صار فيه أي شخص في الجنوب يتحدث عن المؤتمر الوطني كشريك يوصف بأنه خائن. هذا أمر مخالف لنصوص اتفاقية السلام الشامل. لقد تم تجاهل مسألة أخري من قبل الشريكين والتي نص عليها البند الفرعي 3/12/2 من بروتوكول اقتسام السلطة العائد لاتفاقية السلام الشامل وهي أن الشريكين قد تعهدا والتزما بضمان أن الأعضاء والمؤسسات التي تحت سيطرتهما سيقومون بالتقيد وتطبيق بنود الاتفاقية. كم عدد أعضاء المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان الذين التزموا ببنود الاتفاقية وتطبيقها؟ تبعا لذلك، فإن الشريكين لم يعملا كشركاء حسب ما نصت عليه الاتفاقية ولم يقوما كذلك بأي عمل مشترك لجعل الوحدة جاذبة. لقد حدث العكس: الاستقطاب.
الحركة الشعبية لتحرير السودان التي حكمت الجنوب لمدة خمس سنوات لم تحقق انجازات ملموسة تعكس تحقيق أفكارها حول "السودان الجديد". لو كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان تمتلك مشروعا أو برنامجا سياسيا فقد كانت تلك هي الفرصة الذهبية لها لتنفيذهما. علي أية حال، لم يتحقق ذلك وجنوب السودان لم يشهد انجازا ذو قيمة من الحركة الشعبية لتحرير السودان رغم تدفق مبالغ كبيرة من حكومة الوحدة الوطنية. بلغت حصة الجنوب من عائدات النفط ما يتجاوز عشرة (10) بلايين دولار أمريكي إلى جانب حصة الجنوب من اعتمادات الميزانية الاتحادية بالإضافة إلى المساعدات التي قدمتها الدول الشقيقة والصديقة ومنح السلام. بالفعل، لم يشهد الجنوب أي تنمية حقيقية. وبدلاً عن ذلك عاني الجنوب من تفشى الفساد وعدم الأمن والتدخل المستمر في شئون حكومات ولايات الجنوب. علي سبيل المثال، 90% من الميزانية العامة لحكومة الجنوب يتم إنفاقها في جوبا بينما تتلقى ولايات الجنوب العشر 10% فقط. وفى الجانب السياسي، هناك غياب لجو ديمقراطي بالنسبة للأحزاب السياسية لممارسة أنشطتها السياسية. وبالنسبة للأمن، فقد عمت حالة من عدم الأمن وخلال الانتخابات الأخيرة اتضح تزوير الانتخابات بواسطة الحركة الشعبية لتحرير السودان. قامت الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقوة السلاح، بتزوير الانتخابات وفرضت واقعا معينا وهذا أمر جلب نتائج سلبية بما في ذلك تمرد العديد من قادة الجيش الشعبي لتحرير السودان الذين يحاربون حاليا حكومة جنوب السودان تعبيرا عن رفضهم تزوير الانتخابات. جميع هذه العوامل تجعل من المسرح السياسي في جنوب السودان غير مشجع لاستفتاء حر ونزيه وشفاف.
الأقوال المتضاربة من جانب الحركة الشعبية لتحرير السودان
من غير القابل للجدل إن كلا طرفي اتفاقية السلام الشامل ارتكبا أخطاء وإخفاقات بخصوص تطبيق الاتفاقية. علي أية حال، ما يثير الاهتمام هو حقيقة إصرار الحركة الشعبية لتحرير السودان علي لوم شريكها فيما يتصل بجميع الإخفاقات. إلقاء اللوم علي المؤتمر الوطني لم يكن أمرا عرضيا غير مقصود بل هو إستراتيجية مدروسة بواسطة الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ بداية تطبيق الاتفاقية. في أقل من شهر بعد أن قامت حكومة الوحدة الوطنية بأداء القسم، بدأت الحركة الشعبية لتحرير السودان باتهام المؤتمر الوطني بعدم تنفيذ الاتفاقية. وفيما يلي مثالا لذلك.
في 25 سبتمبر 2008م قمنا بأداء القسم كوزراء جدد في حكومة الوحدة الوطنية. في أكتوبر تم إجراء انتخابات نقابة المحامين. عند التحضير لهذه الانتخابات، قام رئيس قطاع الشمال في الحركة الشعبية لتحرير السودان حينئذ، السيد عبد العزيز آدم الحلو، بعمل توصية لقيادة الحركة بأن تتحالف الحركة الشعبية مع قوي المعارضة ("القائمة الديمقراطية") في هذه الانتخابات. أوضح السيد عبد العزيز الحلو أن الحركة لا تستطيع التحالف مع المؤتمر الوطني لسببين: السبب الأول هو أن المؤتمر الوطني لم يقم بتنفيذ الاتفاقية والسبب الثاني هو أن المؤتمر الوطني منبوذ سياسيا. تولد نقاش ساخن في اجتماع قيادة الحركة وكانت أهم مسألة تم إثارتها في ذلك الاجتماع هو أن اتفاقية السلام الشمال تنص بأن تقوم نقابة المحامين بترشيح اثنين من أعضائها لمجلس القضاء العالي وأنه من غير المناسب أن تشغل المعارضة مقعدين في ذلك الجهاز الحساس والأمر الثاني هو أن الحركة الشعبية لتحرير السودان شريك للمؤتمر الوطني في تطبيق الاتفاقية. ولذلك من الطبيعي بالنسبة للحركة أن تتحالف مع المؤتمر الوطني. إضافة إلي ذلك، أنه إذا كان مقبولا عدم وقوف الحركة الشعبية لتحرير السودان مع المؤتمر الوطني لماذا لا تدخل انتخابات نقابة المحامين لوحدها؟ كيف يمكن أن تتحالف الحركة الشعبية لتحرير السودان مع المعارضة بينما هي مشاركة في الحكومة؟ أخيرا، قرر الاجتماع بأن تتحالف الحركة الشعبية لتحرير السودان مع المؤتمر الوطني علي أساس أنه شريك للحركة الشعبية في اتفاقية السلام الشامل. إن السؤال المطروح هنا هو لماذا استنتج مسئول قطاع الشمال في الحركة الشعبية لتحرير السودان حينئذ بأن المؤتمر الوطني لم يقم بتنفيذ الاتفاقية في أقل من شهر من تولي الحكومة لمهامها؟
انقضت الأيام وحصل تحول في موقف القيادة وتم وصف أولئك الأشخاص الذين دعوا للتعاون مع المؤتمر الوطني لضمان التنفيذ السلس للاتفاقية باعتبار أنهم انفصاليين ومنعدمي الاهتمام بقضية الحريات في الشمال ويركزون فقط علي المحافظة علي علاقات طيبة مع المؤتمر الوطني لضمان انفصال سلس. المواقف المزدوجة للحركة الشعبية بوضع رجل في المعارضة ورجل في الحكومة أصبحت عادة. وليس سرا أن الحركة الشعبية لتحرير السودان تجاهلت الدور الوطني الذي كان يمكن أن تلعبه في الشمال. إن وزراء الحركة الشعبية في حكومة الوحدة الوطنية، باستثناء وزير أو وزيرين، لم يكونوا ناشطين وفاعلين ولم يسمع عنهم إلا القليل وتخلي النائب الثاني لرئيس الجمهورية ، ثاني أهم شخصية في الدولة، عن مهام هذا المنصب، وعزل نفسه في جنوب السودان. إن مشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان في حكومة الوحدة الوطنية كان بالأساس لإعطائها الفرصة لإثبات نفسها كحزب قومي. كانت تلك فرصة ذهبية بالنسبة للحركة الشعبية لتحرير السودان للعب دور قومي كان يمكن أن يعزز دعوتها لوحدة البلاد. هذا التحول في الموقف لم يكن ليخدم مصالح الحركة الشعبية لتحرير السودان ناهيك عن تحقيق مصالح المواطنين. إنه كان يخدم مصالح الآخرين الذين يسعون لتغيير النظام. علي أية حال، إنهم عندما فشلوا في تحقيق ذلك من خلال تحالف المعارضة في الانتخابات تحولوا للخطة (ب) التي بدأ تنفيذها الفعلي فورا بعد الانتخابات العامة. بناء عليه، ليس مثيرا للعجب أن أولئك الأشخاص الذين لم يكن لهم مثيل في حماسهم لتبني الوحدة هم الآن متحمسون جدا في دعوتهم لانفصال جنوب السودان! إنهم يتحدثون عن الانفصال ويأتون بمبررات بتغيير ما في القلوب. لقد وجدوا أيدي معينة لهم في هذا النفاق من بعض الشماليين.
إنه من المثير للدهشة أن تسمع الناس، وخاصة الأحزاب الشمالية، تدعي بأن الموقف المتصلب للمؤتمر الوطني دفع الحركة الشعبية لتحرير السودان لاختيار الانفصال. أولاً: إذا كان موقف الحركة الشعبية لتحرير السودان المتصل بالوحدة مسالة مبدأ فعندئذٍ يجب أن لا يتأثر بموقف المؤتمر الوطني أو الأطراف الأخرى. ثانياً: هذه الأحزاب الشمالية التي تجد الآن العذر للموقف الانفصالي للحركة الشعبية لتحرير السودان تتناسى أو تتعمد أن تتناسى أنها تحالفت بشكل أساسي مع الحركة الشعبية لتحرير السودان للإطاحة بالمؤتمر الوطني. إذن كيف يمكن أن تغير الحركة الشعبية لتحرير السودان موقفها المبدئي كرد فعل لمناورات المؤتمر الوطني الذي كان من البداية خصمها إن لم يكن عدوها. ثالثا: لقد كانت وحدة السودان هي المسالة الوحيدة التي جمعت معا الحركة الشعبية لتحرير السودان والأحزاب الشمالية لتكوين تحالف. إذن إذا تحولت الحركة الشعبية لتحرير السودان إلي حركة انفصالية تنتهي أي علاقة و تنهار أي أرضية مشتركة بين المتحالفين السابقين. رابعا: هل كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان تعتقد أنه بتوقيع اتفاقية السلام الشامل أن المؤتمر الوطني سيقبل تفكيك نظام الإنقاذ لجعل الوحدة جاذبة؟ يبدو إن العداوة للمؤتمر الوطني جعلت بعض الناس ينسون أبجديات السياسة. ينبغي علي الحركة الشعبية لتحرير السودان تحمل نصيبها من اللوم بعدم جعل الوحدة جاذبة خلال الفترة الانتقالية. والشيء الأكثر أهمية هو أن الحركة الشعبية لتحرير السودان ملزمة تجاه مواطني جنوب السودان بأن تفسر لهم كيف إنها تقود معسكر الانفصاليين الآن بينما كانت تتفاخر وتتباهي بأن أول طلقاتها كانت موجهة للانفصاليين الجنوبيين قبل محاربة العدو في الخرطوم.
الآن ننتقل إلى التحذير المدوي الذي يدعى بأن خيار الوحدة إنما يعنى قبول الجنوبيين أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية. الاستشهاد بقول الدكتور جون قرنق المذكور أعلاه يمثل المرجع في هذه المسألة. وردا علي ذلك، يجب الملاحظة بأن خيار الوحدة المضمن فى اتفاقية السلام الشامل يؤكد قبول استمرارية وديمومة الترتيبات التي نصت عليها اتفاقية السلام الشامل والخاصة بنظام الحكم فى الجنوب وعلى المستوي الاتحادي القومي. لقد نُصَ علي ذلك فى الدستور الاتحادي ودستور جنوب السودان. بعبارة أخري، يحتفظ الجنوب بوضعه شبه المستقل حاليا وفى نفس الوقت يحتفظ بحصة كبيرة فى الحكومة الاتحادية القومية والتي تصل الآن إلي 30%. وبناء علي ذلك، فان القول بأن الجنوبيين - باختيارهم الوحدة – إنما يختارون أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية يعنى أنه بقبول اتفاقية السلام الشامل قرر الجنوبيون منذ البداية أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية خاصة وأن البلاد كان تسير خلال الخمس سنوات الماضية بموجب ترتيبات اتفاقية السلام الشامل.
ما المطلوب عمله؟
هناك بعض المسائل التي يجب تسويتها مسبقا قبل الاستفتاء. هذه المسائل التي تشمل الحريات والوضع الأمني وإيجاد إجماع جنوبي بخصوص مستقبل الجنوب ينبغي تسويتها مسبقا قبل الاستفتاء. المادة 7 من قانون استفتاء جنوب السودان لعام 2010م تنص علي توفير جو ايجابي مشجع لإجراء الاستفتاء. المادة 7 تشمل سبعة بنود فى هذا الخصوص. إن جميع هذه البنود تهدف لضمان حرية مواطني جنوب السودان فى التعبير عن آراءهم بخصوص الخيارين. يجب أن تقوم مختلف أجهزة الحكم وعلي كافة المستويات بالعمل علي إيجاد الجو الايجابي المشجع بما فى ذلك الوضع الأمني وتوفير حرية التعبير لجميع المواطنين وكذلك حرية التجمع والتنقل. بالإضافة إلى ذلك يجب إشراك دول الإيجاد وشركاءها وتنظيمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية المسجلة علاوة علي تسجيل المقترعين وزيادة وعيهم وضمان حقوق تصويتهم فى تصويت سري بدون ترهيب. كل هذه الترتيبات لم تتم بعد علي ارض الواقع. بناء عليه، وإذا لم يتم تسوية هذه المسائل فإن إجراء الاستفتاء فى ظل الوضع الراهن يعتبر انتهاكا لاتفاقية السلام الشامل. تنص الاتفاقية على أن الخيار ينبغي أن يتم بحرية وأن عدم توفر الأجواء المناسبة لإجراء الاستفتاء ستفتح الباب للشك فى النتيجة سواء من قبل الشماليين أو الجنوبيين أو حتى من الأطراف الأخرى. يجب إجراء الاستفتاء بما يرضى جميع الناس حتى يتم قبول نتيجته من جانب كل الناس. لا معنى لإجراء استفتاء مشكوك ومتنازع فى نتيجته. من المعروف أن الهدف النهائي لاتفاقية السلام الشامل هو تحقيق سلام دائم ولذلك فإذا انتهت الاتفاقية إلي وضع قد يشعل الحرب مجددا فإننا نكون قد أجهضنا الهدف من الاتفاقية. أن المستهدف بمسألة الوحدة والانفصال هو المواطن الجنوبي، ولذلك ينبغي علينا الاتصال به/بها والحوار معه/معها لأجل إقناعه/إقناعها ولكن كيف لنا الاتصال بالمواطن عندما لا يتمتع/تتمتع بحرية الاختيار. إضافة إلي ذلك، هناك غياب للجو الديمقراطي الذي يسمح للمواطنين بتبني الخيار الذي يريدونه. من تجربة الانتخابات الأخيرة، يدرك المواطنون أن الحركة الشعبية لتحرير السودان ستفعل ما تريد. نظرا لأن الحركة الشعبية لتحرير السودان زورت الانتخابات بدون الإفلات من العقوبة فإنها بالمثل يمكن أن تزور الاستفتاء. وما لم يتم معالجة هذه الظروف السلبية فإن الجهود العظيمة المبذولة من جميع القوي السياسية لحوار شفاف ستضيع هباء. بناء عليه، من الضروري توجيه كافة الجهود لإيجاد جو ايجابي مشجع لإجراء الاستفتاء. هذا هو الضمان الوحيد لاستفتاء حر ونزيه وشفاف يجد قبول المواطنين. علي الجميع السعي لتنفيذ الإجراءات السليمة والصحيحة التي تحقق الجو الايجابي المشجع والضروري لإجراء الاستفتاء. إذا كان هناك حسن نية، فإن الوقت المتبقي سيكون كافيا لتهيئة المسرح السياسي للاستفتاء وبذلك يتم تمكين المواطنين للتعبير بحرية عن أرائهم بدون قهر أو ترهيب. إن الظروف الحالية لا تستوفي متطلبات استفتاء حر ونزيه وشفاف يرضى جميع المواطنين. وفى إطار السعي لإيجاد جو ايجابي مشجع لإجراء استفتاء حر ونزيه وشفاف فى جنوب السودان يجب تسوية المسائل الثلاثة التالية:
1 – توفير الحريات و حرية العمل الديمقراطي
حسب ما ذكر سابقاً، لا يمكن التعبير عن حق تقرير المصير فى غياب الديمقراطية. وحيث ان الديمقراطية غير موجودة فى جنوب السودان يجب توفير الحريات ويسمح للقوي السياسية بالمشاركة فى الاستفتاء فى أجواء ديمقراطية صحية. لا يتوقع ان تقوم الحركة الشعبية لتحرير السودان بذلك بمبادرة منها ولذلك يجب الضغط عليها بواسطة جميع القوي السياسية والمجتمع المدني للقيام بذلك.
2 – توفير الأمن
الوضع الأمني فى جنوب السودان غير مستقر لعدة أسباب أكثرها أهمية النزاعات القبلية وقيام الجيش الشعبي لتحرير السودان بمحاربة التجمعات المدنية فى بعض المناطق والأكثر خطورة تمرد بعض قيادات الجيش الشعبي ضد الجيش بعد الانتخابات وهم الآن يحاربون حكومة جنوب السودان. يجب معالجة هذا الوضع الأمني.
3 – الحوار الجنوبي - الجنوبي
الجنوب هو لجميع الجنوبيين ويجب أن لا يكون ضيعة خاصة لحزب واحد. بناء علي ذلك، جميع المواطنين لديهم اهتماماتهم بخصوص مستقبله. فى ظل الظروف الحالية فإن جميع المهتمين بمصالح الجنوبيين قلقون فيما يتعلق بغياب المشاورات الخاصة بالمسائل ذات الاهتمام التي فى قائمة أولوياتها كيفية إجراء الاستفتاء بوحدة الهدف. بناء عليه، من الضروري إجراء الحوار الجنوبي- الجنوبي قبل الاستفتاء لأجل الوصول إلي اتفاق بخصوص مستقبل الجنوب بعد الاستفتاء بغض النظر عن خيار الوحدة أو الانفصال. يجب أن يشمل الحوار إشراك جميع الأحزاب الجنوبية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات العامة. يجب الاتفاق علي العديد من المسائل الهامة خاصة إذا كان الخيار هو الانفصال. تشمل هذه المسائل تحويل الدستوري الإقليمي الحالي إلى دستور قومي يضمن عدم استخدام الجنوب فى زعزعة استقرار الدول المجاورة بما فى ذلك الشمال، وعدم السماح بإنشاء أي قاعدة عسكرية أجنبية فى جنوب السودان، وصياغة ميثاق شرف لتوفير الحريات والديمقراطية وحياد ومهنية الخدمة المدنية ...الخ. الحوار الجنوبي- الجنوبي سيكون صمام الأمان الذي يقفل الباب فى وجوه أصحاب الأهداف (الأجندات) الخفية المتعلقة بالاستفتاء ومستقبل جنوب السودان.
خاتمة
المسالة الأساسية حاليا هي أنه فى ظل الظروف السلبية الحالية فى جنوب السودان ليس هناك سبيل لإجراء استفتاء حر وشفاف ونزيه. لذلك، فإنه من مصلحة دعاة الوحدة والانفصال علي حد سواء توحيد صفوفهم وبذل جهودهم لفرض جو ايجابي لنشر أفكارهم بخصوص الوحدة أو الانفصال حتى تصل إلى المواطن الجنوبي الذي سيصوت فى الاستفتاء. وكذلك من مصلحة كلا المعسكرين ضمان إجراء استفتاء حر وشفاف ونزيه لأجل جعل نتيجته مقبولة من الجميع وبذلك يحصل علي الاعتراف من المجتمع الدولي. هذا يستلزم مناقشة الترتيبات التي تسبق الاستفتاء لأجل الوصول إلى إجماع حولها وبذلك يتم توفير فرصة عادلة لمعسكري الوحدة والانفصال. إذا كان طرفي اتفاقية السلام الشامل لديهما الإرادة السياسية الكافية يمكن إيجاد الظروف الايجابية المطلوبة خلال شهرين. إن الحوار الجنوبيالجنوبي هو أمر ضروري لإجراء الاستفتاء علي قدم المساواة مع توفير الأمن والحريات والجو الديمقراطي فى جنوب السودان. وبما أن هناك اختلافات بين الشمال والجنوب هناك كذلك اختلافات فى نطاق الجنوب نفسه. بناء عليه، إذا حدث الانفصال، فان الوضع بالنسبة لاختلافات الجنوبيين يجب التعامل معها بحصافة.
* الدكتور مهندس لام أكول أجوين، وزير الخارجية الأسبق ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – التغيير الديمقراطي.
* * نقلا عن سودان تربيون


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.