حتى الآن، وقد أنفقت أعواماً عقب جلوسي عليها متربعة على عرش دقائق لا ينقطع فيها ولاء السلام والمصافحة؛ لم أعرف لماذا يطلق على مكان كرسي العروسين (كوشة)؟ وقد بحثت سابقاً في كُوَش - جمع كُوشة وليس الحضارة القديمة نشيد السودان الجديد! - عن علب صلصة تصلح لعمل كعب لحذائي الوهمي أو بقايا أغطية زجاج مياه معدنية تصلح (كشكوش) لحفلتي الموسيقية الوهمية! أو ربما (فلّين) ما زال بلونه الأبيض يصلح سريراً أسفنجياً لعروستي الوهمية.. حيث كنّا كبنات نبحث عن الأنعم في القمامة والأكثر سلاسة، أمَّا الصلابة فنتركها للصبية ليجمعوا بها سياراتهم الوهمية، وعلى كل واحد أن يجتهد في تصميم سيارته بحسب قدرته على جمع أكبر قدر من حديد (الكوشة) ! فكانت نتيجة بحثي المطول ذاك في الكوشة وعن معناها في الأصل أنها (مقلب للقمامة)، أما الكلمة في ذات أصل إطلاقها ربما يكون مصدرها أناس حي ما، كوّشت - بمعنى استحوذت - قمامتهم على مساحة مقدرة من حيّهم، فأطلقوا عليها لقب (كوشة)، وطارت مع أكياس النايلون وسارت بين أقدام الأطفال لتنتشر التسمية أكثر. و(الكوشة) زمان لا شك تختلف عن (الكوشة) الآن كسائر الاختلافات الزمنية والمكانية، فقديماً كانت القمامة ذاتها نظيفة وغير متعفنة، ولا تتكدس بأكياسها السوداء والزرقاء الكبيرة على قارعة الطرق تتوسل الرفع والرأفة! حيث كانت تحرق بيوم محدد يختاره شباب الحي الأذكياء، وغالباً ما يكون الوقت متناسباً مع سرعة الرياح إن كان ليلاً أو نهاراًَ حتى لا تنتشر النيران وتصعب السيطرة عليها والأوساخ معاً! كما أن آلية الحرق تلك كانت تمنع انتشار الجراثيم والحشرات المختصة بالكوشة لفترات تطول بطول (الكوشة) ووجودها في بقعة بعيدة عن الحي. ومازالت حيّة عندي ذكرى العقوبات المفروضة على زياراتنا لقمامة الكبار باحثين فيها عن فرصة لتحقيق ما نريد بحملاتنا الساذجة لجمع الأحلام الوهمية، فنعود لنجد الحقيقة ماثلة في نظرات الأمهات المشحونة بالوعيد والتهديدات التي تشتت ما تبقى من أحلامنا عائداً مرة أخرى إلى الكوشة! فلماذا سمحنا لأنفسنا أن نسترسل في ترسيخ اسمها على أكثر مكان مريح للجلوس تشعر فيه أنك امتلكت أحلامك كلها؛ ارتديت فيه حذاءك ذا الكعب العالي وقدت فيه سيارتك ذات الإطارات الحقيقية وصوت محرك و(بوري) قوي وحقيقي، لماذا نسميها للمكان الذي فيه تعزف لنا فرقة موسيقية حقيقية ويعاقبنا فيه الجميع عقاباً جميلاً بالمحبة والفرح بالسلام والقبلات وأمنيات غلبة المال والعيال! تقول صديقتي ذات ونسة (إن تسمية الكوشة جاءنا من مصر، فنحن في عاداتنا للعرس لا نمتلك فكرة الكوشة هذه، بل تكون الكلمة هي (القعود) للعروس والعريس وهي تمثل فكرة الهودج العربي القديم بتقنية سودانية، مضاف إليها السعف والبرش وما إلى ذلك..) ولم تحدد لي لماذا يطلق عليها (كوشة)؟ فالجامع بين الكوشتين أنهما قبلتان للناس للتخلص من شيء ما! في الأولى تكون القمامة وفي الثانية هي المجاملة ومصافحات المباركة، وربما إظهار الوجه بأنك حضرت زفافهم! والاحتمال الأقرب أن الاثنتين محلان للأحلام محتملة الحدوث وشرفة للإطلالة على غد أجمل - ياريت - وهما مكانان لتوديع ما لا توده من سابق حياتك، إن كان قمامة مأكولات وملبوسات ومنقولات، أو قمامة ذكريات وطيش شباب وخلو مسؤوليات! وربما لأن الاثنتين مشتركتان في صفة المكان المتميز والمحدد والظاهر جداً، وربما في الحريق بين العروسين تشوقاً وبين الغيورين من الجنسين الذين كشباب لم يحظوا بالعروس وكبنات يحسدنها على العريس! وبالضرورة حسد الأهل للنسب التمام! وما تمّ من تجمع كوش في الفترة الماضية بسبب عيد الأضحى المبارك وما يتوافق بحضور البعيدين إن كانوا من خارج البلاد اليها أو من داخل البلاد إلى خارج عاصمتها بالعودة إلى الريف، مما يشكل موسم فرح كل عام بالعودة ومراسم للزواج وتجمع الكوش! ولذات سبب العيد السعيد تغيب عربات النظافة عن الحضور المتزامن معه هذا بجانب زيادة النسبة الطردية للأوساخ لذات السبب (العيد)، حيث أننا جميعاً نبرع في تنظيف بيوتنا للعيد فقط نظافة كاملة وشاملة - ونفوسنا أيضاً - فتتجمع الكوش، وهذا وقت من العام لا تصلح فيه الحرائق، فهي تنتشر أسرع بفعل الرياح الشمالية -الجنوبية مما يؤدي إلى كارثة إنسانية تحيل أحياءنا جميعها إلى كوش، لكن بفرق وحيد أنها لا تحتوي على ميزة الأحلام ولا الأفراح ولا حتى القمامة!