كانت حالة أشبه ب (حوار الطرشان)، لمّا نهض أحد الإخوان الجنوبيين عقب صلاة العشاء منذ يومين خطيباً في جمع من المصلين، يدعوهم إلى مساعدته لتكملة بعض المنشآت الإسلامية بمقاطعته الجنوبية التي قدم منها، فالرجل الدينكاوي فارع الطول الذي يرتدي زياً إفرنجياً كامل الدسم «بربطة عنق حمراء» كان يتصور أن إخوانه الشماليين سيحملونه على الأعناق فضلاً عن مساعدته مباشرة، غير أن ثمة «أزمة خطاب» وأزمة تفاهم وتواصل قد سدت الأفق بين الجانبين، لم يستوعب الإخوة المصلون في ذلك المسجد المنصوب وسط الحي الشعبي، لم يستوعبوا كيف أن رجلاً «غير معمَّم» يمكن أن يكون داعية، فالأدب السائد هنا ينزع إلى «سودنة الزي وتعريب الاسم»، حال دخول أحدهم الإسلام، لكن البدلة الإفرنجية قد فاقمت من تعقيدات الخطاب، مرة لفرنجيتها، ومرة أخرى لغلاء سعرها، إذ كيف برجل يدخل في لبسة ثمنها يذهب للخمسمائة جنيه، كيف يقف سائلاً بين يدي مصلين ثمن جلباب أحدهم لا يتعدى العشرين جنيهاً، فالحالة التي ترسخت بين جمهور المصلين أن يكون السائل رث الثياب منكسر الخطاب مهزوماً مغلوباً مقهوراً، وفي المقابل كان ينظر هذا الأخ الدينكاوي إلى أنه من اللباقة والاحترام أن يذهب لإخوانه الشماليين المسلمين وهو في أجمل ما يملك من ثياب، ولا يدري الرجل مقدار الهزيمة النفسية والانكسار الذي باتت ترزح تحت وطأته هذه الأمة. بينما أتى هذا الرجل الدينكاوي الجسور إلى المسجد على متن الآية الكريمة «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»، وهو يتطلع إلى أن يدعم إخوانه المسلمون جسارته هذه ورفعة رأسه وهو يومئذ مسلم حسن الإسلام، وليست هناك بطاقة أعظم من ذلك، ولا شرف ولا حسب أنبل وأعظم من الانتماء إلى الإسلام، وفي المقابل لم تتعد نظرة المسلمين إلى هذا المشهد مجرد «حالة تسوّل جديدة»، ولو أمعنوا النظر قليلاً لأدركوا أن المتسولين لا يأتون كالثوار على صهوة جسارتهم. رأيت أن أقول نحن كأمة سوادنية مسلمة لم نتمكن حتى الآن من إنتاج فكر إسلامي وبلورة أطروحات نتجاوز بها «أزمة الخطاب والتواصل» بيننا وإخواننا الجنوبيين، ولم يكف أن نحفظ عن ظهر قلب كل تفاصيل «فتح مكة» وغزوة بدر الكبرى وكل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاهداته ونحتفل بها في مواقيتها كل عام، فيفترض أننا نستلهم من تلك السير والمشاهد المقدسة «خريطة طريق» ليس فقط ندخل بها إلى إخواننا الجنوبيين وإنما نذهب بها إلى كل مجاهل أفريقيا ونحن يومئذ «أمة بلاغ»! هل فعلاً قد فقدت الإنقاذ «بوصلة مشروعها» الذي جاءت إلى الحكم من أجله، وأنها الآن بلا مرجعية فكرية، وأنها تركت أمر إدارة كل الشؤون للسياسيين؟ وأصبح علماؤنا مجرد لاجئين ونازحين! وفي المقابل قد غاب علماؤنا من «أزمة الجنوب» خاصة وما يتعلق «بقضية الاستفتاء»، بل وما هو مصير إخواننا الجنوبيين المسلمين في الجنوب حال الانفصال؟ وإن كانت نصرتهم واجبة، ثم ماذا سيكون مصير الجنوبيين المسلمين في الشمال إذا ما وقع الانفصال؟ بل ما هو مصير غير المسلمين! أتصور أننا نحتاج إلى دور كبير من علمائنا بترسيم حدود الشرع للمرحلة المقبلة، ويحتاج علماؤنا في المقابل إلى الخروج من فقه دائرة الأحوال الشخصية، إلى دوائر فقه الأمة كلها. والله أعلم.