بعد أن أدينا صلاة العشاء أمس الأول بمسجد أحد الأحياء الشعبية الفقيرة المكتظة بالسكان بمنطقة شرق النيل؛ إذا برجل دينكاوي مسلم شديد سواد الشعر، شديد «بياض السريرة والتوجه»، في ما نحسب، فارع الطول، يدخل في زي إفرنجي «كامل الدسم»، وسيم المظهر، جميل المخبر، إذا بالرجل يقف أمام المصلين ليقول خطبة مقتضبة لم نفهم منها سوى أنه مسلم أتى من جنوب السودان ليعلمنا، أو قل ليحرضنا على دفع بعض استحقاقات أخوَّة الإسلام، وأن لهم بعض المنشآت الإسلامية «مساجد وخلاوى» تحت التشييد، وأنها بحاجة إلى مساعدة إخوانه المسلمين، وبدا أمر هذا الرجل كما لو أنه قد طرح «الموضوع الصاح في المكان الخطأ بالطريقة الخاطئة»، وبالتأكد أنا لا أقصد أن «المسجد هو المكان الخطأ»، لعرض «تكملة هذه المنشآت الإسلامية»، ولكني أقصد هذا الحي الفقير، فماذا يمكن أن يقدم غريق إلى غريق؟ وجريح إلى جريح؟ فإن هذا الحي أيضاً يعتبر من «مصابي عمليات الفقر» ومتحركات أسعار العملة الصعبة التي جعلت الأسواق جحيماً لا يطاق، حيث كان من المفترض أن تكون وجهة الرجل إلى «مساجد خمس نجوم» من أمثال مسجد السيدة سنهوري، والخمس نجوم هنا هي معيار ومقياس «لدرجة معاش وحياة المصلين» وليست معيارية للمسجد، هذا للذين يقرأون بتطرف، أما الطريقة الخطأ فتكمن في هذه المفارقة الشاهقة، بحيث أن متعلقات الرجل الدينكاوي التي وضعها أمامه بعد إلقاء خطبته، وهو ينتظر أن تتدفق الهبات والأموال عليه، تدفق مشاعره الجياشة التي جاء على متنها من جنوبنا الحبيب، وضع أمامه جهاز موبايل فاخراً جداً، ثم عصا أبنوسية محلاة بمعدن أصفر كالذهب لا تقل فخراً وفخاراً عن جهاز الموبايل، ثم اللبسة الإفرنجية الفاخرة هي الأخرى التي لا تقل بحال عن مبلغ الخمسمائة جنيه، هذا وزن الرجل المادي وهو يقف أمام مصلين لا يتعدى «العراقي البلدي» لأحدهم مبلغ «عشرة جنيهات» وربما تبادر لبعض المصلين، قبل أن يعرض الرجل قضيته، أنه قد جاءهم اليوم من ينفق عليهم بعض الأموال والمساعدات، كانت ثمة حلقة باهظة مفقودة في هذا الحوار، حوار الأخ الجنوبي المسلم مع إخوانه المسلمين الشماليين، وبدا أن الرجل الذي جاء مندفعاً لإخوانه المسلمين في الشمال، كان يعتقد أنه يفترض أن يخرج عليهم بأحسن ما يملك من زينة لقوله تعالى «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»، ولو استقبل الرجل ما استدبر من أمره لاختار «ثياباً بالية» ليظهر بها أمام المصلين، فالذي لا يعرفه الرجل الدينكاوي هو «إذا أراد أحدنا مخاطبة حاجته أمام المصلين فإنه يختار أسوأ الثياب مع خطاب منكسر ومنهزم»، وبعضهم يعالجونها ببكاء ودموع، وبعد ذلك ربما لا يستجاب لها، فنحن لم نبلغ مرحلة أن يأتينا رجل على صهوة جواد بكامل هيئته يطلب «الجهاد بالمال» لإنقاذ مشروعات إسلامية ومسلمين بالجنوب، فنحن نعيش بامتياز مرحلة الانكسار الأممي والانهزام الجمعي والانحطاط الفكري والتراجع القيمي، وربما كانت أيضاً أنها «القضية الصاح في الزمان الخطأ»، إذ يفترض أن يتفرغ إخواننا المسلمون الجنوبيون في هذه الأيام «لتعزيز فرص السلام والوحدة»، فما قيمة هذه المنشآت إذا ما وقع الانفصال تحت ظلال حكومة أحادية النظرة تنظر إلى الإسلام كأحد «متعلقات الجلابة» التي يفترض أن ترحل معهم شمالاً؟ اقتربت من الرجل، الذي لم تثمر طلته وخطبته سوى بضع جنيهات لا تتعدى العشرة في أحسن الأحوال، لأقول له «ما هكذا تعرض بضاعة الأفكار يا أخا الإسلام»، فدللته على سوق أخرى، أن يأتينا بالصحيفة لنعرض قضيته على مصلين، أو قل قراء ومسؤولين ومهتمين من ذوي «السبع نجوم»، نجوم الانفعال بقضايا الأمة. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.