هناك من الجنوبيين في ولاية الخرطوم وغيرها من شدوا الرحال إلى الجنوب، ولعل معظم هؤلاء من العناصر التي امتلكت قدراً من الوعي لاكتسابها خبرات مهنية وحرفية في مجالات البناء والتشييد والميكانيكا والحدادة وقيادة السيارات وما إلى ذلك، فهؤلاء يتابعون أنباء عمالة أجنبية تتدفق من دول إفريقية مجاورة للجنوب، وهذه العمالة الأجنبية سرعان ما تنخرط في مجالات عمل يحتاجها الجنوب حيث انفتحت أبوابها في الآونة الأخيرة بصورة غير مسبوقة، وقد نقلت قناة الشروق تقريراً ميدانياً من جوبا في هذا الصدد. ومن الطبيعي أن يحفِّز كل ذلك كثيرا من العمال، الجنوبيين للعودة الطوعية، وهم الأحق في التمتُّع بفرص العمل المتاحة هناك، واللاحقة في الفترات القادمة. وهناك بالطبع غالب الجنوبيين القاطنين في أطراف العاصمة القومية في كافة ولايات الشمال، وكل التقارير تُشير إلى ضعف المشاركة بتسجيل أسمائهم، بل والعزوف أصلاً عن تسجيلها، وهناك من لا من يهمه أن يعرف ما هو «التسجيل» وما هو «الاستفتاء» وما هي الوحدة والانفصال، فهم أناس بسطاء يسعون إلى قوت يومهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً على أن من أهم الحقائق الدامغة حقيقتان مهمتان، الأولى هي: أن الأحزاب الشمالية التي تدعي إيمانها بوحدة السودان لم تقم بأي دور وسط الجنوبيين في الشمال لإقتناعهم عبر المقابلات والندوات واللقاءات الجماهيرية، بخيار الوحدة، وحثهم وتنظيمهم إلى مراكز التسجيل، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث.. فماذا وراء هذا الموقف السلبي؟ هل لأنه لا توجد عندنا أحزاب حقيقية مرتبطة بالقواعد الجماهيرية التي تنطق باسمها ولها برامجها، ولجانها من مستوى الحي إلى مستوى القيادة. إذا كان الأمر غير ذلك، بمعنى أن هذه الأحزاب حقيقة تقوم على أرض الواقع، وأن لها علاقات إستراتيجية مع الحركة الشعبية في الجنوب، وأن هذه الإستراتيجية سيظل «النضال» قائماً من أجل تحقيقها سواء انفصل الجنوب أم لم ينفصل، فأين ذهب كل هذا الكلام وغيره ولم يكن لهذه الأحزاب أي دور حتى في فترة تسجيل الجنوبيين تمهيداً لممارسة «حقهم الديمقراطي» في الاستفتاء الذي سيُقرر مصير الجنوب، أو بالأحرى على المستوى العملي تقرير مصير السودان الواحد. يحدث كل ذلك وأنظار العالم مشدودة نحو السودان وهو مُقبل بعد كذا وأربعين يوماً على الاستفتاء وذلك وسط حضور دولي كثيف تعجز فنادق السودان كلها عن استيعابه، فأين أحزاب الشمال يمينها ووسطها ويسارها من هذا الحدث التاريخي الكبير؟ أكبر الظن أن ممثلي الإعلام العالمي سوف يفاجأون بفرصة ذهبية لا مثيل لها في استنطاق قادة هذه الأحزاب.. فرصة صالحة للاستثمار الإعلامي إلى آخر مدى.. فأين المفر؟ { قضية هيبة السلطة: ٭ هي قضية تطرح نفسها هذه الأيام ويدور حولها كلام كثير هنا وهناك في أخطر مرحلة تمر بها البلاد. ففي الدول التي تسيِّر أمورها سيراً طبيعياً بلا صراعات مشتعلة نيرانها، تتجلى هناك صورة هيبة السلطة كضامن عادل يحمي حياة الناس بسياج من الأمن والأمان، وتوفير احتياجاتهم كشرط أساسي مما جاء في معنى الآية القرآنية الكريمة «الّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّن خَوْف» وجاء من بعدها بقرون ميثاق الأممالمتحدة الذي يدعو بالحرف الواحد دول العالم ل«العمل على نشر التقدم الاجتماعي وعلى تعميم مستوى أفضل للمعيشة في جو من الحرية». غير أن قضية هيبة السلطة تبدو شائكة في الدول التي تُعاني من النزاعات والحروب الداخلية المسلّحة، حيث قد تعجز الحكومة عن معالجة الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، وقد ترتفع من داخل أهل الحكم أنفسهم أصوات تُطالب بالحل السلمي وأن طال مداه، وأصوات أخرى تجنح إلى فرض هيبة السلطة بقوة القانون والسلاح معاً على اعتبار أن ذلك هو الطريق لحماية أمن المجتمع وأمانه. ولهذا فنحن في السودان نتفاءل كثيراً كلما جنحت الحكومة إلى الحلول السلمية لنزاعاتنا وحروبنا، وكلما أقامت العدل بين الناس، وكلما جاهدت في سبيل توفير الحياة الكريمة للجميع وبمشاركتهم في إنجاز مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ما يقفل الطريق أمام المتربصين بالسودان من قوى صهيونية وغيرها، وعزل المرتزقة من أعدائهم الذين يشكِّلون وصمة عار، وخروجا على القيم الوطنية والدينية والإنسانية، ولكنهم لا تعلو خدودهم حُمرة الخجل!. { في كلمات: ٭التحية للدكتور عصام صديق، فما أعظم مشروعه الوطني الكبير الذي افتتح الأسبوع الماضي، بمدرسة الشهيد علي عبد اللطيف، وهو بداية شن الحرب على التصحر والاحتباس الحراري، وتنمية ثروة السودان الغابية، وذلك بغرس مليار شجرة على النطاق القومي. عرفتُ د. عصام صديق قبل حوالي عشرين عاماً حين جاءني بالمنزل- بلا معرفة سابقة - ليحكي لي طموحات كالخيال بشأن صمغ الهشاب العربي، ومع السنين إذا به يواصل بذله في تحقيق طموحاته الوطنية، قبل الشخصية، ومنها وصول ثمرات بذله في الصمغ إلى الصيدليات. إنه العِلم الذي ينفع الناس..