٭ يكتسب الحوار حول الاستفتاء وقضايا ما بعد الاستفتاء مع الدكتور امين مكي مدني، أهمية خاصة، ليس لكونه سياسيا ومفكرا وخبيرا قانونيا فقط، وانما ايضا لأنه شارك فى عمليات استفتاء جرت في بلدان أخرى تتقاطع تجربتها مع التجربة السودانية الوشيكة، وعايش إبَّان عمله مستشارا قانونيا بالامم المتحدة تجربة دول البلقان في ممارسة حق تقرير المصير، وفي هذا الجزء الأول من الحوار نقلب أوراق مفوضية الاستفتاء حديثة النشوء، والتحديات العملية التي تجعل الاستفتاء في ما تبقى من زمن مستحيلا، بل ويقود الى حرب كما يقول، على أن نقف على تجارب الدول الأخرى في الجزء الثاني: ٭ دعنا قبل أن نناقش قضايا الاستفتاء وما بعده نبدأ بتحديد الأسباب التي قادت الى مرحلة الاستفتاء وكانت وراء ما آلت اليه احوال السودان بالوصول الى تقرير مصير جزء منه بهذه الآلية؟ الاسباب تتلخص في ان الحكومات، سواء أكان الحكم مدنيا او عسكريا، لم يكن لديها بعد النظر اللازم لمعالجة قضايا السودان، وكان تركيزها الى حد كبير حول المناصب والسلطة، وكان حكم قوى سياسية تتنافس حول من هو الاقوى انطلاقا من الخرطوم ومن المصالح السياسية، دون النظر الى استراتيجية محددة او مستقبل السودان ومشاكله العرقية والاقتصادية، وهذا ينطبق على الحكام سواء أكانوا عسكريين او مدنيين، طبعا العسكر كانت لديهم ايجابيات وسلبيات وكذلك المدنيون، ولكن ايجابياتهم نفسها كانت جوفاء الى حد كبير، عبارة عن اعلانات، مؤتمرات، لقاءات ولا توجد خارطة طريق موجهة للوصول الى هدف محدد، وما وصلنا اليه الآن صيرورة تاريخية «ربنا يحلنا ويكضب الشينة»، فبقاء السودان موحدا في ظل الضبابية الموجودة في فلسفة الحكم ونظام الحكم خاصة الدولة الاسلامية وتوزيع الثروة والسلطة صار مهددا، فالمشاركة في السلطة ليست توزيرا او تعيين مساعدين للرئيس، وإنما هي مشاركة الاشخاص في مناطق السودان المختلفة، واحساسهم بتمثيل حقيقي، وليس أن يشعر المرء أنه محكوم من الخرطوم، أي أن يشارك المواطن في سنكات وام روابة وتندلتي ومروي والمسلمية وكاجوكاجي بأن يكون لديه مجلس بلدي وضابط شرطة ومسؤول اقتصادي ومخطط في موقعه يعايش مشاكله ويحلها له مباشرة، وليس من الخرطوم، فهو لا تهمه الشعارات حول التنمية والحريات والاقتصاد والأمن والمواطنة والخيانة والعمالة والمصلحة الوطنية، وإنما يهمه أن يأكل ويسكن، وأن يكون لديه ماء جار ونور، وأن يذهب أطفاله الى المدرسة ليتعلموا، وللطبيب ليتعالجوا. ٭ ما هي خلفيات إقرار الاستفتاء كآلية تقود الى تحديد مصير جزء من دولة؟ الاستفتاء أصبح مبدأ دستوريا في ما يتعلق بمستقبل الدول، فمعظم الدول التي بها حروب ناتجة عن مجموعات اثنية او ثقافية متطلعة لتحكم نفسها وتجد نفسها في دولة كبيرة، ومعظم الدول وتفاديا للحروب والنزاعات المسلحة تلجأ لاستفتاء المواطنين المعنيين حول تقرير مصيرهم، وما اذا كانوا يريدون الاستمرار في دولة موحدة أو يريدون وضعا خاصا بهم يحققه لهم الحكم الذاتي، او يريدون الاستقلال تماما، او الانضمام الى دولة أخرى هم اقرب اليها من ناحية الجذور السياسية والثقافية والتاريخية والجغرافية، وأهم ما في تقرير المصير حرية الارادة، وان يكون الجو مهيأً لتلبية خيار الناس من غير تأثير وضغوط ومن غير تزييف ٭ لندلف الى الاستفتاء الذي غدا وشيكا، وما اذا كانت المفوضية التي تم تشكيلها أخيرا قادرة على انجاز مهامها في المدى الزمني المحدد؟ مفوضية الاستفتاء كان ينبغي تكوينها قبل أكثر من عام، لأن المهام الملقاة على عاتقها ضخمة جداً، وهي أهم من مفوضية الانتخابات، لأن لجان الانتخابات مرتبطة بعملية تتكرر، بينما مفوضية الاستفتاء مرتبطة بمصير وطن، وفشلها في مهامها سينعكس سلباً على الاستفتاء في أبيي وعلى المشورة الشعبية في النيل الأزرق وجنوب كردفان، ولا تستطيع أن تعرف ماذا سيحدث في شرق السودان وغيره من مناطق السودان، فالمفوضية مثقلة بجبال حقيقية من المسؤوليات، والمفوضية التي يرأسها البروفيسور محمد ابراهيم خليل ومعه ثمانية اعضاء لو سألتني عن مكاتبها واين تقع، فإني لا اعرف، ولا اعرف ما هي مخصصاتهم وعدد موظفيهم وعرباتهم وكمبيوتراتهم وتلفوناتهم، فيجب ان تكون لديهم مكاتب في الجنوب وعشر لجان عليا في كل ولايات الجنوب، والمفروض ان ينشئوا نظاماً لتسجيل الناخبين في الشمال وخارج السودان، وهذه فيها عقد كبيرة، مثل ان الناخب يجب ان ينتمي الى اسرة او مجموعة اثنية كانت مقيمة بالجنوب قبل 1956م، بالاضافة الى ان هنالك تفاوتاً في أرقام الجنوبيين الموجودين بالشمال بنسبة 75%، وبين من يقول ان عددهم مليونان، ومن يقول عددهم 400 ألف، وماذا عن الجنوبيين في باكستانوجنوب كاليفورنيا وايرلندا، وكم هو عددهم وهل يستوفون شروط التسجيل، ثم أن التسجيل كان ينبغي ان يكون قد اكتمل يوم 11 يوليو موعد اجراء الحوار وهو لم يبدأ بعد، فمتى سيكتمل التسجيل في كل انحاء العالم، ومتى ستنشأ مكاتب المفوضية، ومتى تباشر مهامها؟ ومن ضمن مهامها التوعية، واذا اخذت مثلا شابا جنوبيا في قلب الخرطوم بشارع الجمهورية دعك من الجنوب، وسألته عن الاستفتاء ومعناه لن يجيبك، وهناك «23» مهمة للمفوضية في القانون من إعداد وتنظيم وتوعية وتعليم وبرامج اعلامية، ثم تأتي العملية التنفيذية من صناديق وتوزيعها وجمعها وفرزها وطعون واستئنافات، فهذه مهام صعبة. ٭ هذه المعوقات التي أشرت إليها.. ما هي التعقيدات التي قد تتولد منها؟ المهام الملقاة على عاتق مفوضية الاستفتاء جبال اثقل من تلك التي اضطلعت بها مفوضية الانتخابات، ونحن رأينا تجربة الانتخابات، ولا اريد ان اتحدث عن تزوير أو عدمه، وانما اتحدث عن الميكانيزم، فالآليات في الانتخابات كان فيها تخبط واخطاء ادارية وفنية، ولكن الاستفتاء ليس مثل الانتخابات، فهذه تمضي وتأتي بعد أربع أو خمس سنوات بينما الاستفتاء لا يتكرر، لذا الدقة والانضباط وعدم التشكيك في هذه العملية مهم جداً، فعدم توفر الشروط اللازمة للاستفتاء قد يؤدي الى حرب ونزاع مسلح. ٭ أتتوقع أن تقود أخطاءً في عملية الاستفتاء إلى الحرب؟ أقول إن الانتخابات مصيرها موقوت بأربع سنوات بينما الاستفتاء موقوت بمستقبل السودان، فبالنسبة للذي يحارب لأجل وحدة أو استقلال لن يتحمل في ما يحارب من أجله المغامرة واحتمالات الخطأ والصواب، مثل أن يقال له هذه الأخطاء سنصححها، وهذه سنعالجها، والأموال لم تتوفر، والكوادر لم تكن مؤهلة، والكمبيوترات تعطلت، أي أن مجمل الاخطاء التي اطلق عليها اخطاء ادارية وفنية في الانتخابات لا تتحملها عملية الاستفتاء.. فالمهام الموكلة لمفوضية الاستفتاء مهام ضخمة جداً، وحتى هذا النهار لا أجد خطوات عملية لانجاز هذه المهام، ولنا شهران نتحدث عن تكوين المفوضية ورفض البرلمان لأحد الاعضاء وهكذا، فحتى الآن لا نعرف اين مكاتب المفوضية وهل تم تكوين اللجان ومن هو المدير العام والسكرتير والناطق الرسمي باسمها، وأين اموالها وأوراقها ومقارها في جوبا والولايات العشر؟ ٭ ما تبقى من وقت ألا يكفي لانجاز هذه المهام؟ - الزمن المتبقي لا يكفي اطلاقا، لأنك تريد أن تحصي الجنوبيين وتسجلهم في الادغال وفي كل مكان، وفصل الخريف بدأ فكيف ستسجلهم. ٭ ألديك اقتراح للاستدراك على عمل المفوضية؟ أي اقتراح يقال سيفسر سياسياً، بل قد يساء فهمه، ولكن اذا كنا جادين في عملية الاستفتاء فإن الوقت غير كافٍ لاجرائه في موعده المضروب، والتأجيل هو الاصوب. ٭ إذا قام الاستفتاء في موعده.. كيف ترى قضايا ما بعد الاستفتاء؟ هي قضايا عويصة، إذ لا بد من ترسيم الحدود، ومناقشة أوضاع الجنوبيين في الشمال سواء أكانوا اربعمائة الف او اكثر، وكذلك وضع الشماليين في الجنوب، وهنا قد يقول قائل «الشماليون رحلوا»، ولكن الشماليين ليسوا هم تجار حي الملكية، فهناك شماليون توالدوا عن جنوبيات، هل هؤلاء شماليون ام جنوبيون، وكذلك الجنوبيون في الشمال المولودون من أمهات شماليات، فهذه لا بد من حسمها وتحديد هوية هؤلاء. ولحسن الحظ القانون السوداني يسمح بجنسيتين، ولكن هل ستكون جنسية مزدوجة، شمالي جنوبي، وجنوبي شمالي، هل سيسمح لهم بحرية الحركة بين الشمال والجنوب بالجوازات، والتجارة هل ستكون بينية. وماذا عن البترول، بعد أن تركنا القطن والسمسم والصمغ العربي واصبحنا دولة تعتمد على البترول بنسبة 80 او 70% كما يقولون، وستنقص الميزانية، فبدلا من خمسمائة ألف برميل ستكون مائة ألف برميل، فمسائل النازحين والحدود والجنسية والبترول والعلاقات الخارجية والتمثيل الدبلوماسي والديون الخارجية وهل ستكون مناصفة بين الدولتين ام ستقع على شمال السودان، فهذه مسائل لا بد من حسمها مبكرا. ٭ كيف تقدر امكانية حسمها؟ وهل من سبيل الى حلول أم انها ستقود الى صدام؟ المسألة كلها مرتبطة بصدق النوايا والجدية، فاذا توفر هذان العاملان يمكن الوصول الى حلول، ولكنها في حاجة الى وقت، فهذه قضايا لا يمكن حلها في ما تبقى من وقت حتى 2011م، ليقال يعدها ان جنوب السودان اصبح مثل يوغندا في العلاقة مع الشمال. ٭ الدعوة الحالية للكونفدرالية هل تنقذ الموقف؟ لا توجد حاجة اسمها كونفدرالية، الكونفدرالية تعبير عفى عليه الزمن وانتهى، ولو نظرت الى العالم كله ستجد الكونفدرالية السويسرية، وهذا اسم تبقى من مخلفات التاريخ، فسويسرا الآن فيدرالية بكل المعاني، ويأتي رئيس في كل فترة من احد الكانتونات المكونة لهذا الاتحاد الفيدرالي، وتعبير كونفدرالية تعبير مضلل تماما، والكونفدراليات تاريخيا التقاء بين دول متنازعة مع بعضها وتنشئ نوعاً من الكونفدرالية، بينما الفيدرالية تكون داخل الدولة الواحدة، مثلما في المانيا والولايات المتحدة، ولا يوجد في العالم شئ اسمه كونفدرالية والوضع بين الشمال والجنوب لا يمكن ان يسمح بكونفدرالية. ٭ بماذا تصف طرح الكونفدرالية الآن؟ هي محاولة لتمييع موضوع الانفصال، فاذا حدث الانفصال وقررت الدولتان أن تصيرا صديقتين ولديهما شيء هرمي في الوسط للتشريف فهذا ممكن، ولكن اذا انفصلت الدولتان تصبحان دولتين، واذا ارادتا عمل فيدرالية يكون هذا اقليم وهذا اقليم وهناك حكومة مركزية، ولكن لا يوجد شيء اسمه كونفدرالية، ففي سويسرا التي يتحدث الناس عنها توجد فيدرالية، ولا توجد كونفدرالية، والذي يطلق عليها انما هو اسم من مخلفات التاريخ، تم الزج به في الفترة الاخيرة لتلطيف الانفصال. ٭ إذا تحدثنا عن البنية القانونية في الجنوب، السلك القضائي والأجهزة الشرطية والعدلية وخلاف ذلك من مؤسسات قانونية، هل تسمح بقيام دولة جنوبية قادرة على الاستمرار؟ كثير من الدول الخارجة من النزاعات يحدث فيها انهيار، فمثلا الصومال لا يوجد بها جيش ولا شرطة ولا قضاء ولا محكمة ولا بوستة، والجنوبيون لا يحبون أن تقول لهم اذا انفصلتم ستكون دولتكم عرضة للانهيار، فهم سيقولون لك «هذه مشكلتنا، وحين نبلغ الكبري سنعديه»، ولكن هي مشكلة، وسيكون امامهم تحدٍ كبير جدا بالرغم من وجود دول تمزقت وعادت سوية، ومما يساعد الجنوب وجود حسن نوايا دولية كثيرة، فهناك دول كثيرة لديها حسن نوايا تجاه الجنوب سواء أكان ذلك من ناحية كنسية أو من ناحية حقوق إنسان، وهذه ستوفر للدولة الجنوبية دعما. ٭ أي نوع من الدعم، هل هو دعم بأجهزة عدلية، أم بالتدريب والتأهيل؟ خذ مثالاً كمبوديا، لما خرج الخمير الحمر في 1977م جاءت الأممالمتحدة وادارت الدولة، حيث اتت بالقضاة والشرطة والأطباء والاداريين، ورغم أنها لم تقف على أرجلها حتى الآن، إلا أن الأممالمتحدة أدارتها ادارة كاملة. ٭ إذن أنت تقول إنها مشكلة ستواجه دولة الجنوب؟ هي مشكلة كبيرة، ولكن على الشماليين أن يكونوا حذرين وليس عليهم إثارتها باعتبارها ذريعة لعدم قدرة الجنوبيين على ادارة دولة، فالجنوبيون عندها سيقولون «هذا كلام فارغ، وهذه مشكلتنا، ونحن قادرون عليها»، ولكن توجد مشكلة حقيقية اذا اختار الجنوبيون طوعا وعلما بوجود مشاكل في التنمية والصحة والخدمات والطرق والتعليم، واختاروا الاعتماد على انفسهم في حلها فهذا حقهم، وعلينا الابتعاد عن الاسئلة الأبوية. ٭ نحن لا نسألك بوصفك شماليا وإنما خبير قانوني؟ فقط الجنوبيون حين تأتي لهم بهذه السيرة «ح يزعلوا» وسيقولون لك «أتريد ان تتبنانا وتقول لنا عندكم مشاكل عشان كده ما تختاروا الانفصال، يا أخي هذه مشكلتنا ولا تسألنا من هذه الحكاية، فنحن قادرون عليها». ٭ سؤال أخير حول الدستور الدائم، فهل آن الأوان لدستور دائم سواء أكان الخيار وحدة او انفصال؟ هناك عدد من الدساتير أطلقنا عليها الدستور الدائم، فجعفر نميري قال انه وضع الدستور الدائم، الدوام لله، ونحن الآن في حاجة حقيقة لدستور دائم سواء أكانت نتيجة الاستفتاء انفصالا او وحدة، دستور لنظم الحكم، والحكم اللا مركزي كأهم شيء، فالقصة ليست والٍ ووزراء لإدارة الجزيرة او كردفان، وانما هي استراتيجية حقيقية للتنمية والتحول الديمقراطي، فالكتابة على الورق سهلة، ولكن الكتابة ليست هي المطلوبة.