احتفت الساحة السياسية والفكرية مؤخراً بصدور كتاب «مشاهد وشواهد على الانتخابات الأخيرة في السودان، وأضواء على الفخ الأمريكي في نيفاشا ومشاكوس» لكاتبه المعروف د. عبد الرحيم عمر محيى الدين، ويأتي الاحتفاء لكونه الإصدارة الأولى التي وثقت للتجربة الانتخابية الأخيرة في السودان من واقع المشاهدة؛ حيث كان الكاتب ضمن المرشحين لمنصب والي ولاية الخرطوم وشاهداً على تفاصيل المشهد الانتخابي. الكتاب الذي صدر عن دار كاهل للدراسات والطباعة والنشر المحدودة بالخرطوم؛ اشتمل على ثمانية مشاهد وستة شواهد. تحدث الكاتب في المشهد الأول عن ما أسماه أضواء على الفخ الأمريكي في نيفاشا ومشاكوس، واستعرض فيه حقائق وملاحظات مهمة حول مسألتيْ الوحدة والانفصال ودور الوساطة ومقدرات المفاوض الحكومي، بجانب دور الأحزاب الأخرى في هذه المسائل المصيرية. يعتقد المؤلف أن المفاوض الحكومي تعرض لاستدراج من الغرب حتى قام بالتوقيع على بنود مشاكوس ونيفاشا واعتبر المشهد هو جنوبنا الحبيب، كما قال، الذي خطط الغربيون لفصله عن السودان كخطوة أولى ستتبعها خطوات، والدليل على ذلك أن القارئ لاتفاقية نيفاشا، التي وقعها المؤتمر الوطني مع الحركة الشعبية المتمردة في عام 2005م، يكاد يجزم بأن الجنوب في طريقه الحتمي نحو الانفصال المتوقع حدوثه مباشرة بعد الاستفتاء المزمع عقده في 9 يناير 2011م حسب نص الاتفاقية، أو ربما يتم إعلانه من داخل البرلمان «حكومة الجنوب»، كما توقع د. عبد الرحيم إذا تعذر قيام الاستفتاء في مواعيده. وأكد أنه، وفقاً للقانون الدولي، فإن حق تقرير المصير لا ينطبق على أبناء الجنوب؛ لأن هذا الحق قاصر على الأقاليم والدول الخاضعة للاستعمار الأوروبي فقط رغم عبارات الوحدة الجاذبة التي ضلل بها المبعوث الأمريكي دانفورث وخبراؤه المفاوض الحكومي. كما أن دعاوى حق تقرير المصير لأبناء جنوب السودان تمثل خرقاً واضحاً لأسس ومبادئ الاتحاد الأفريقي باعتباره الوريث الشرعي لمنظمة الوحدة الأفريقية التي سبق أن وقفت ضد انفصال «كاتنجا عن الكنغو وبيافرا عن نيجيريا»، ونبه إلى أن تطبيق حق تقرير المصير سيجلب الويلات لدول الجوار السوداني مثل إثيوبيا، وأرجع موافقة الأحزاب الشمالية على تقرير المصير للإخوة في الجنوب؛ أرجعها لمبدأ مكايدتها لنظام الإنقاذ، تلك المكايدة التي دعتها في وقت مضى إلى خوض الحرب المسلحة في شرق وغرب وجنوب البلاد مع الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الراحل العقيد جون قرنق، بعد أن أكدت على حق تقرير المصير بالنسبة للجنوب وفي مقدمتها المؤتمر الشعبي وحزب الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي وأحزاب التجمع. وحينما احتلت الحركة المتمردة توريت أثناء مفاوضات مشاكوس عام 2000م؛ قامت قوات المعارضة باحتلال مدينة همشكوريب حتى تقوي الموقف التفاوضي للحركة. لتأكيد مساندة الأحزاب المعارضة لموقف الحركة المفضي لتقرير المصير؛ استعرض المؤلف نصاً للكاتب يوسف الشريف «السودان وأهل السودان» قال فيه الأدهى والأمر، أن الإدارة الأمريكية سعت إلى شراء سكوت بعض فصائل المعارضة السودانية لتمرير ما قد يتم الاتفاق عليه في مفاوضات مشاكوس واستبعادها كطرف أصيل في الحركة السياسية الوطنية عبر منح بعض فصائل التجمع الوطني الديمقراطي المعارض آنذاك عشرة ملايين دولار، وحتى الآن لا تزال الاتهامات تلاحق بعض زعمائه، بينما أكدت صحيفة (الرأي العام) السودانية أن نصيب أحدهم من الرشوة الأمريكية كان في حدود (6) ملايين دولار، بالاضافة لمليون دولار دعماً لنشاط التجمع الإعلامي. وأرجع د. عبد الرحيم بداية الدور الأمريكي في بث ثقافة تقرير المصير إلى نوفمبر 1993م عندما دعا السيناتور الأمريكي هاري جونسون الى مؤتمر لمناقشة مسألة تقرير مصير جنوب السودان. وتم تفصيل هذا الأمر في اتفاقيتيْ مشاكوس التي وقعت بين حكومة السودان وحركة التمرد في 20 يوليو 2002م ونيفاشا التي وقعت في عام 2005م وكان المفاوض الحكومي غافلاً أو كما قال المؤلف حيث وقع على مشاكوس التي منحت أبناء الجنوب حق تقرير المصير وتأسيس دولتهم المستقلة حال الانفصال، وأضاف أن الغريب في الأمر ليس حق تقرير المصير؛ لكن الغريب هو العجلة في تسريع توقيت الاستفتاء، فكان من الحصافة والدراية بالمخططات الغربية أن يدرك مفاوضو المؤتمر الوطني أن الست سنوات لن تصنع أو تسهم في خلق وحدة جاذبة، بل لن تكتمل أثناءها عودة اللاجئين والنازحين من أبناء الجنوب لمواطنهم. وبحسب الكاتب فإن الإقليم كان يحتاج لفترة انتقالية مدتها (25) عاماً حتى نستطيع خلق وحدة جاذبة تقنع المواطن الجنوبي بأن خيار الوحدة هو الأفضل. والدليل على ذلك أن الحكومة السودانية فشلت داخل ولاية الخرطوم في إنشاء كوبري العزوزاب الصالحة الذي كان يفترض افتتاحه في عام 2006م لكن لن يتم ذلك حتى عام 2011م. فإذا كان جسر صغير لم يتم خلال (6) أعوام فكيف يتسنى لحكومة السودان أن تخلق وحدة جاذبة في الإقليم الجنوبي وهو بمثابة دولة جاثية على الركب منهارة تماماً تفتقد أبسط مقومات الحياة والبنيات الأساسية التي لا يمكن إنشاؤها في (6) سنوات؟ وقال الكاتب: لم تكن ال(6) سنوات التي مُنحت لتحقيق الوحدة الجاذبة ورضي بها المفاوض الحكومي غير الخبير؛ هي المأساة وحدها، وإنما كان الأشد والأنكى موافقة المفاوض السوداني على ذهاب كل حصة الجنوب من مليارات البترول للحركة الشعبية، التي مازال يعيش معظم قادتها في فنادق نيروبي، من غير حسيب أو رقيب بدلاً من أن تمنح لشركات التنمية في الجنوب المسؤولة عن الإنشاءات لتصبح الوحدة جاذبة. والنقطة الثانية التي أخفق فيها المفاوض الحكومي هي السماح ببقاء ما يزيد عن المائة ألف جندي، وهو قوام جيش الحركة الشعبية بكامل قواته وعتاده الحربي، حتى قيام الاستفتاء؛ حيث أصبح له الحق في عقد اتفاقيات التسليح وشراء المعدات الحربية. وبعد ذلك تتحدث الحكومة المركزية عن وحدة جاذبة ناسية أو متناسية أن الجيش الشعبي هو صاحب الأمر والنهي في الجنوب والحركة الشعبية تتحرك كحكومة موازية للحكومة السودانية لها عَلَمها ومكاتبها الخارجية ومواقفها الموازية للحكومة المركزية. وابتدر د. عبد الرحيم الجزئية المرتبطة بالانتخابات باستعراض موقف الأحزاب في الانتخابات قائلاً: ليس الحزب الحاكم وحده هو الشيطان الأكبر الذي يوسوس في صدور الناس ويسعى بينهم بالكذب والتزوير والغش ورفع الشعارات الهباب، ولا وحده الذي قنن المخصصات الكبيرة والمرتبات المهولة والنثريات المفتوحة والجمع بين الوظيفة الكبيرة ورئاسة أو عضوية مجالس إدارات العديد من الشركات للشخص الواحد؛ وإنما الأحزاب الطائفية هي كذلك شريك في البلاء، وأشار إلى أن السادة كل همهم دفع التعويضات بالمليارات أينما ذهب القوم دفعوا، إذا ذهبوا إلى نيفاشا حملوا معهم ملايين الدولارات وإذا ذهبوا إلى أبوجا دفعوا ليكسبوا أعضاء الحركات ويشقوا صفوفهم، والحال كذلك في مفاوضات الدوحة بحسب ما يرويه قادة بعض الحركات. في المشهد السابع تحدث المؤلف عن تجربته الخاصة في الترشيح لمنصب والي الخرطوم مؤكداً أنه اتخذ القرار حينما رأى أوضاع كثير من الفئات المستنيرة والخريجين وأرباب المعاشات والمهمشين في أطراف العاصمة وأحيائها محرومة من الخدمات الضرورية، رغم علمه بأن الحزب الحاكم لن يفرط في العاصمة، والفوز بمنصب والي الخرطوم في انتخابات تنقصها الشفافية والأمانة أمر غير يسير لكنه غير مستحيل. كما عدد الكاتب جملة أهداف قال كانت كافية لخوضه الانتخابات، حصرها في كسر حاجز الخوف والرهبة والاستسلام الذي أحال الكثيرين من أبناء الشعب الى مستسلمين «حسب تعبيره» ويائسين من الإصلاح أو خائفين من النظام وقد لمست ذلك عند بعضهم الذين اقتنعوا ببرنامجنا ومناصرتنا لكنهم كانوا لا يمتلكون الشجاعة ليجاهروا بها، والبعض الآخر اعتذر عن وضع ملصقاتنا الدعائية على سيارته بحجة أن له مصالح مع المؤتمر الوطني. وأخيراً هدفنا من الترشح إرسال رسالة للشباب الذين ناصرونا والمتفرجين والسلبيين والحديث للمؤلف لنؤكد لهم أن المبادئ لا تُقدر بثمن والإصلاح يتطلب التضحية. واستطرد د. عبد الرحيم في ذكر تفاصيل الصعوبات التي واجهته وتمثلت في مراقبة حزب المؤتمر الوطني لمسيرته وحركته وسعيه لشلها عقب إعلانه الترشح. الكتاب احتوى على فصول أخرى مشاهد جديرة بالمطالعة والتمعن.