{ نشر المعلومات السرية لم يكن نهجاً جديداً ابتدرته (ويكليكس) بل كان ممارسة راتبة تنتهجها أجهزة صناعة وإنتاج المعلومات مثل أجهزة المخابرات ومراكز المعلومات والإستراتيجيات، وذلك لخدمة أجندة محددة يخدمها النشر، وهناك بعض الدول سنت لعملية نشر المعلومات القوانيين والتشريعات باعتبار أن المعلومات لا يمكن أن تظل حبيسة الملفات والأدراج وأحياناً صدور الرجال إلى ما لا نهاية، ففي بريطانيا كان النشر محظوراً للوثائق السرية حتى خمسين سنة، وقد قلصت التعديلات المتتالية هذه الفترة الزمنية الى ثلاث عشرة سنة، وفي إطار ذي صلة ارتبط العرف الدولي بهذه التدابير المتعلقة بالمعلومات وحقيقة ملكيتها، فجرى العرف أن الأعمال الفنية والثقافية تتحرر من قيود الملكية الفكرية وتتحول إلى مادة تراثية مشاعة للكافة يسمح لهم التغني بها وممارسة كافة أوجه العروض الفنية مع الإبقاء على الحق الأدبي، وذلك بعد مرور خمسين عاماً علي تأليفها. { كل المعلومات التي تتصل بتاريخنا في العالم العربي والأفريقي وحتى ذلك المتصل بالدول الغربية كله الآن متاح، وقد شرعت عدد من المحطات التلفزيونية في إنتاج عدد من البرامج التلفزيونية من وحي تلك الوثائق التي كانت في يوم من الأيام تعد معلومات سرية يحظر تداولها، ولعل المتابع لقناة الجزيرة قد شاهد عدداً من الحلقات من البرنامج التلفزيوني (إرشيفهم وتاريخنا) الذي تبثه القناة بشكل راتب، وداخل هذا الإرشيف ترقد كافة المعلومات والتفاصيل الخطيرة لكل ما كان يجري في الساحة العربية من أحداث وما تبعها من أنشطة سرية تورط فيها قادة عرب باعوا قضاياهم وتنكروا لمسؤولياتهم، وها هم الغربيون أنفسهم يفضحون صنيعهم ويؤرخونه في إرشيفهم ويبيحون للكافة الاطلاع عليه دون رد لجميل لمن كان يخون أمته لأجلهم وأجل أجندتهم مقابل بقائه في سدة الحكم. { حتى تاريخ بلادنا متاح بكافة تفاصيله الخطيرة داخل هذا الإرشيف الخطير الذي يوثق لكل شيء من الأحداث والتطورات والشخصيات التي كانت يومها تتمتع بالنفوذ وبالسلطة وبالحضور الواضح داخل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولكن مازالت العقلية السودانية تتمتع ببعض الخوف وتتراجع المسؤولية المهنية لدى الأوساط الإعلامية والأكاديمية والثقافية فتنأى بنفسها عن فتح مثل هذه الملفات التي بالتأكيد ستحاكم الكثيرين، وما يدفع كذلك في اتجاه تأجيل فتح مثل هذه الملفات أن السلطة الاجتماعية التي تسكن الوجدان السوداني ما زالت تنتصر للحراك الاجتماعي المسالم والمتصالح حتى مع إبليس، ومثل هذه الصورة الاجتماعية نجدها قد أنتجت الكثير من العبارات المسكنة والمحفزة على البعد من إثارة كل ما من شأنه فتح الباب للمشاكل والصراعات، ويدعم هذا الاتجاه الاجتماعي أن النقد لا يقبله الناس فيجعل من الأحياء من ذوي أصحاب تلك الملفات التي ترقد في إرشيف الغرب قنابل موقوتة تتصدى لكل محاولة نقد للعام الذي يمثله جدهم الكبير خروجاً عن المألوف واستهدافاً لأسرهم وتاريخهم، وبذلك يرفضون المحاكمة ويرفضون أي محاولة للعودة الى الماضي، اللهم إلا من باب الثناء الذي ما تجاوز أحداًً من السابقين ولكن حتما سيتطور المجتمع السوداني وسيفتح تلك الملفات مثلما تتطور المجتمع العربي، وهو الآن يفتح الملفات العربية من داخل الإرشيف الغربي. { عمليات النشر القانوني طالت بعض الوثائق المهمة وقد أفرجت عنها السلطات الأمريكية مثل تلك الوثيقة التي نشرت بتاريخ 16ديسمبر 1998م وهي تحمل ترويسة المخابرات الأمريكية (CIA) وتكشف حجم الأموال التي مولت بها المخابرات الأمريكية حملتها لتقسيم يوغسلافيا وقد سمت الوثيقة كافة الجهات التي تلقت أموالا بما ذلك القضاء اليوغسلافي والمؤسسات الإعلامية والأكاديمية وحددت بالتفصيل الأموال التي استلمتها كل جهة من تلك الجهات التي نفذت الخطة وذلك بعد أقل من سنوات قليلة من تقسيم يوغسلافيا، ولك أن تتساءل عزيزي القارئ هل كان هذا التسريب الذي بالتأكيد أحرج حلفاء الأمس أمراً عارضاً أم سياسة مقصودة تهدف الي التصالح مع الأوضاع الجديدة وعبور مرحلة العمل السري الى مرحلة الجهر السياسي والانفتاح. { وثيقة أخرى كشفنا عنها في زاويتنا هذه قبل أيام وهي تتصل بالعمل الإنساني وعلاقة المنظمات بالمخابرات الأمريكية والواجهة التي ظلت لأكثر من خمسين عاماً تدير النشاط الاستخباري وهي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وقد كشف تقرير صادر عنها كل هذه المعلومات المدوية في يناير من العام 2003م وربط المساعدة بالمصلحة الوطنية لأمريكا وأنها لم تعد تعمل لأجل تخفيف مآسي الإنسانية. { عمليات النشر الأخير التي أطلق عليها (وكيليكس) وأدانتها كافة الدول الغربية لم تكن مغامرة من شاب ولكنها بالتأكيد تخدم جهة ما خططت وجمعت وثائق بهذا الحجم وهذه النوعية التي غطت كل دول العالم ومست كافة القضايا الحية في العالم، لن تكون بأي حال من الأحوال عملاً عادياً وبالتأكيد أنه يخدم إستراتيجية الجهر وتجاوز مرحلة التعاون الخجول والسري، وقد أنفقت تلك الجهات في مثل هذه الأنشطة عقوداً من الزمان وهذا يكفي ويجب أن ينتقل الجميع الى سطح المسرح.