تظل الكتابة عن الاستقلال ناقصة ما لم تتناول الأنصار حزب الحركة الوطنية في القرن التاسع عشر. لقد حققوا بكل بسالة وشجاعة واقتدار الاستقلال الأول ودخلوا الخرطوم يوم 26 يناير 1885م فاتحين مُكبِّرين مُهللين واثقين منتصرين مُسدلين الستار على فترة بغيضة من تاريخنا بدأت عام 1821 بغزو محمد علي باشا للسودان. ويُنسب ذلك الاستقلال الأول للأنصار لأنهم هم الذين حقّقوه.. والشعب السوداني لم يكن كله أنصارياً، فقد كان هناك من رفضوهم منذ البداية والذين (تأنصروا) في ما بعد فعلوا ذلك من باب التقية والخوف، ولذلك فإنهم بعد هزيمة الأنصار في كرري في سبتمبر عام 1898م خلعوا الجُبّة وعادوا إلى قواعدهم شامتين مبتهجين. وبينما تحقّق الاستقلال الأول منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر بقيادة المهدي والأنصار بالكفاح المسلح، فإن الاستقلال الذي أُنجز منتصف خمسينيات القرن العشرين بقيادة الزعيم الأزهري والحركة الاتحادية تمّ بالكفاح السياسي. وكان للأنصار الذين تخلّوا تحت زعامة السيد عبدالرحمن المهدي عن الكفاح المسلح وانتهجوا الكفاح السياسي كان لهم في تحقيق هذا الاستقلال الثاني دور ونصيب، ويختلف الناس في هذا الدور وحجمه لكنهم لا ينكرونه. وكما قِيل كثيراً فإن الجمعية التشريعية مثلاً التي قامت عام 1948م ودخلها الأنصار وحزبهم السياسي «حزب الأمة» وعارضتها الحركة الاتحادية كانت هي التي من داخلها طُرح وأُجيز اقتراح الحكم الذاتي الذي أفضى في النهاية إلى الاستقلال. ويُرجِّح كثير من الناس أن حوادث مارس 1954م التي أُدين فيها بعض قادة الأنصار واشتركت فيها جماهيرهم كان لها دور في تغيير مسار الحزب الوطني الاتحادي الحاكم من الاتحاد مع مصر إلى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان. ولقد أنشأ آباء الاستقلال نظاماً ديمقراطياً إنهار قبل أن يكمل ثلاثة أعوام، وما أكثر الأسباب ومنها أن الحزب الحاكم أُجبر أو أُضطر إلى تأليف حكومة قومية!. ثم في نفس العام انقسم الحزب وفيه أيضاً أُقصي من الحكم. ولو أن الحزب الحاكم تسنّى له أن يبقى في السلطة فترة معقولة، لأدى الاستقرار إلى معالجة مشكلات ما بعد الاستقلال وإلى استتباب الديمقراطية. وقد حدث شيء من ذلك في بعض الأقطار ومنها الهند التي ظلّ فيها حزب المؤتمر يحكم منذ الاستقلال الذي تحقق عام 1947م حتى نهاية السبعينيات. ومنها إسرائيل التي ظل يحكمها حزب العمل منذ قيامها عام 48 حتى عام 1977م عندما تولى تكتُّل ليكود المعارض الحكم، وأسباب أخرى كثيرة قيلت عن إنهيار الديمقراطية في السودان بعد حوالي ثلاثة أعوام من استقلاله.