من المصادفات الجميلة، أن الاستقلالين الأول والثاني اللَّذيْن تحققا في عامي 1885م و1956م، تحققا في شهر واحد يُعد من أجمل الشهور من ناحية الطقس هو يناير. والحقيقة أنه تم إعلان الاستقلال الثاني من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م ولكن أُتفق على الاحتفال به في مطلع يناير من كل عام وهو اليوم الذي تم فيه إنزال علمي دولتي الحكم الثنائي بريطانيا ومصر، ورُفِع علم الدولة المستقلة. وتم الاستقلال الأول بالكفاح المسلح وحققه الأنصار بقيادة المهدي وقد اسطفت حوله مجموعة من القادة العباقرة، وخاضوا كثيراً من المعارك وانتصروا فيها ثم تم بعد أن أقاموا دولتهم المستقلة فإنها سقطت بعد سنوات قليلة وكانت البداية هزيمة كرري في سبتمبر 1898م ثم أُسدل الستار نهائياً على تلك الدولة المستقلة في نوفمبر 1899م بمقتل الخليفة. وقد كتب الكثيرون عن ضياع ذلك الاستقلال والمسؤولين عنه وأسبابه، وكان منها أن طموحات الدولة المهدية كانت أكبر من قدراتها، وعندما تكون الطموحات أكبر من القدرات، تحيق الكارثة بكل تأكيد. وقلنا ونعيد إن هذا الموقف الذي تكون فيه طموحات الدولة أكبر من قدراتها تكرر في القرن العشرين في مصر في عام 1967م وفي العراق عام 2003م. كان الاستقلال الثاني الذي تحقق منتصف خمسينيات القرن الماضي تتويجاً لنضالات كثيرة طغى عليها النضال السلمي. وإذا كان الاستقلال الأول الذي تم في يناير 1885م انهار بعد بضعة أعوام، فإن الاستقلال الثاني تعرَّض بعد بضعة عقود لشرخ من (الحجم العائلي) بانفصال جزء من الوطن أو انقسام الوطن إلى دولتين، ولا تبدو في الأفق أية رغبة لمعالجة هذا الشرخ. وهناك شبه إجماع على أن ما أنجزناه منذ منتصف الخمسينيات أقل مما كان ينبغي أن ننجزه. فالوطن زاخر بموارده الطبيعية وبمقدرات إنسانه، وقد نقصت هذه الموارد بانفصال الجنوب العام الماضي ورغم ذلك فإن الموارد الموجودة كفيلة ببناء دولة قوية جاذبة غنية. وهناك أيضاً شبه إجماع على ضعف الحركة السياسية في شقيها الحكومي والمعارض، والجميع يعانون خللاً في الأولويات كما أنهم بصفة عامة يقدمون الحزبي والجهوي على الوطني. أما الديمقراطية التي أصبحت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي هي المذهب السياسي الأول والأكثر قبولاً في العالم، فإن الحديث عنها يطول. فالديمقراطية التي يكثر الحديث عنها لم تتجذَّر بعد، وبعض الأحزاب المشهورة أصبح العائلي في داخلها أقوى من الحزبي، ثم إن بروز الحركات المسلحة دليل قوي على عدم اقتناع البعض بأن الوصول إلى الحكم يجب أن يتم عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة التي هي أهم ملامح العملية الديمقراطية. لقد كنا الدولة الوحيدة، أو ربما من الدول القليلة جداً في العالم التي خضعت لاستعمار دولتين هما بريطانيا ومصر، وكان حكم الدولة الثانية اسمياً أكثر منه فعلياً وربما كنا أيضاً من الدول القليلة في العالم التي كان لها استقلالان وإنْ دلّ ذلك على شيء أو أشياء فإنه يدل على تميُّزنا.. وخصوصيتنا.