شهدت سنوات اتفاقية نيفاشا العديد من المحطات التي قد تحيِّر المتتبع لمجريات الأمور في السودان، وخاصةً ما يتعلق بحق تقرير المصير لجنوب السودان وموقف الحركة الشعبية من قضية الوحدة وإدارتها لجنوب السودان والأوضاع الأمنية التي أدت إلى مقتل ما يقارب (25000) ألف مواطن جراء الصراعات القبيلة في الجنوب منذ 2008م، إلا أن عام 2010م جاء لكشف حقائق ما ترمي إليه الحركة الشعبية والمجتمع الدولي. دخلت الحركة الانتخابات موهمة الجميع بأنها تعمل من أجل الوحدة لتضمن سكوتهم وتنفرد بالجنوب لتهيئته لمرحلة الاستفتاء وتوجيهه نحو ما تريده. آلاف الضحايا عذبتهم الحركة، إبان فترة الانتخابات ومئات آخرون ماتوا عقب تلك الانتخابات التي رفضت الحركة الشعبية الاعتراف بنتائجها. في 9 مارس 2010م عقدت دول الإيقاد الست بنيروبي اجتماعاً موسعاً لتقييم تطبيق اتفاقية السلام الشامل التي وُقعت بين حكومة السودان والحركة الشعبية في 2005م، وهو اللقاء الذي خاطبه رئيس حكومة الجنوب رئيس الحركة الشعبية، الفريق سلفاكير، مؤكداً أن تقرير المصير المزمع إجراؤه في 2011م؛ يعتبر أولوية لجنوب السودان، وأن سير الانتخابات ليس شرطاً مسبقاً لسير الاستفتاء. وقال كير إن الجنوبيين ينظرون للاستفتاء بأهمية أكبر من الانتخابات المنتظرة في أبريل، مضيفاً أن حق تقرير المصير بالنسبة لهم هو أكبر إنجازاتهم السياسية في اتفاقية السلام الشامل. وخاطب كير أعضاء الإيقاد قائلاً: «أناشدكم تطبيق اتفاقية السلام بالكامل وحسب الجدول الزمني، وأناشدكم أن تحترموا خيار شعب جنوب السودان في استفتاء 2011م». أما في 27 أبريل 2010م فأكد سلفاكير على إيمانه بوحدة السودان. وقال كير في حوار مع قناة (روسيا اليوم) إن في وحدة السودان قوة للجميع، وأن الحركة تؤمن بالوحدة، وأشار الى أن الانفصال سيؤدي إلى خسارة يتكبدها كل السودانيين، وأن جنوب السودان يشهد فترة تحتِّم الوحدة أكثر من أي وقت، ومضى مشدداً بالقول: «إننا نحاول أن نقوم بالوحدة على كافة الأصعدة وهناك محاولات يقوم بها البعض ترمي إلى فصل الجنوب والحركة تعمل على إيقافهم». وفي مارس 2010م ذكرت تقارير أخبارية أن جهاز الموساد الإسرائيلي يأتي في مقدمة الأجهزة الاستخباراتية في العالم المتورطة في عملية تهريب الأسلحة لجنوب السودان. ونقلت صحيفة إماراتية عن قادة الجيش الشعبي بأنه من حقهم دعم مقدراتهم العسكرية؛ على خلفية ما تردد عن امتلاك الجيش الشعبي سفينة الأسلحة الأوكرانية. وجاء في العدد الأخير لنشرة (جنز) الدفاعية الأسبوعية استناداً على صور بالأقمار الصناعية: «إن جنوب السودان يجمع أسطول مدرعات ويستعد لأي احتمال في نزاعه الطويل مع الخرطوم». وتابعت (جنز): «طلب جنوب السودان شراء مجموعة من (100) دبابة». ونشرت (جنز) صوراً التقطتها الأقمار الصناعية لمجمع للجيش الشعبي شمال شرق عاصمة جنوب السودان «جوبا» في مارس 2010م يضم دبابات مغطاة بأغطية مموهة أو موضوعة وسط نباتات في أنحاء المجمع»، وأشارت الى أن (12) دبابة جديدة صُورت في مايو وكلها من نفس شكل الدبابة الأوكرانية طراز (تي 72)، وأضافت: «أن صور الأقمار الصناعية أظهرت آثار جنازير جديدة تمتد من مطار جوبا إلى المجمع؛ مما يشير إلى أن هذه الدبابات نُقلت جواً إلى السودان في أوائل مارس»، وأبانت (جنز) أنها لم يمكنها أن تثبت أن الدبابات التي صُورت قرب جوبا في مايو هي نفسها الدبابات طراز (تي 72) التي تم العثور عليها على ظهر سفينة أوكرانية خطفها قراصنة صوماليون. وفي 31 مارس 2010 سحبت الحركة الشعبية مرشحها لرئاسة الجمهورية، وعزت ذلك إلى تدهور الأوضاع الإنسانية في دارفور وخروقات ومخالفات عديدة صاحبت العملية الانتخابية، و«عرمان» الذي دفعت به الحركة الشعبية مرشحاً لرئاسة كان ذلك عقب رفض الفريق سلفاكير ترشيح نفسه للرئاسة واكتفائه فقط بترشُّحه لرئاسة حكومة الجنوب؛ وكانت ل «عرمان» فرصة كبيرة في الانتخابات، بل كان هو المنافس الوحيد للمشير عمر البشير مرشح حزب المؤتمر الوطني، فألقى قرار سحبه من السباق الرئاسي ظلالاً سالبة على سير العملية الانتخابية وأُصيب أنصار الحركة الشعبية بإحباط، وإن كان الكثيرون منهم أدركوا أين تتجه الحركة الشعبية عقب تلك الانتخابات، خاصةً أن عملية اختيار مرشحي الحركة في تلك الانتخابات على كافة المستويات؛ مرت بالعديد من الصعوبات التي كادت تؤدي إلى انقسام الحركة الشعبية التي اعتمدت فيها لجان الكليات الانتخابية على برامج الولاء للمجموعة المسيطرة التي تسعى إلى فصل جنوب السودان؛ الأمر الذي أدى الى بروز صراعات عنيفة وسط أنصار الحركة وعضويتها؛ مما دفع ببعض قادتها لترشيح أنفسهم مستقلين، ومن بينهم «أنجلينا تينج» وزيرة الدولة بالطاقة، حرم الدكتور «رياك مشار» نائب رئيس حكومة الجنوب، نائب رئيس الحركة الشعبية؛ التي ترشحت لمنصب حاكم ولاية الوحدة في مواجهة مرشح الحركة «تعبان دينق». ورغم أن نتائج الفرز في داخل الكليات الانتخابية بالحركة أكدت تقدم «أنجلينا» على «تعبان» إلا أن الأمور رست في الآخر لصالح تعبان دينق المحسوب مع مجموعة سلفاكير الذي أوكل له إدارة الصراع في الوحدة لصالح كير، أي ضد مجموعة رياك مشار. وأيضاً أظهرت نتائج الانتخابات التي جرت في 11 أبريل 2010م تصاعد أسهم «أنجلينا تينج»؛ إلا أن الحركة الشعبية أغلقت الجنوب ورفضت الاعتراف بأي مرشح آخر خلاف المرشحين الذين دفعت بهم، وهو ذات الأسلوب الذي اتبعته الحركة في الولايات الأخرى؛ ففي ولاية الاستوائية الوسطى ترشح الجنرال «ألفريد لادقوري» مستقلاً في مواجهة مرشح الحركة الشعبية «كلمنت واني»، وأيضاً فاز «قوري» على «واني» إلا أن الحركة رفضت الاعتراف ب»قوري» حاكماً لولاية الاستوائية الوسطى؛ الأمر الذي دفع ب «قوري» إلى أن يعتكف بجزيرة «كاديقيري» بجوبا، وقيل إن «قوري» الذي ترددت أنباء عن ذهابه الى صديقه الرئيس اليوغني «يوري موسيفني»؛ لجأ إلى «كاديقيري» تفادياً لصدام يسببه أنصاره الذين أعلنوا رفضهم النتيجة ومقاومتهم سلطات حكومة الجنوب. فيما أعلن الجنرال «جورج أطور» تمرداً ضد حكومة الجنوب وانشقاقاً عن الجيش الشعبي في منطقة «خور فلوس» بولاية جونقلي التي ترشح فيها مستقلاً في مواجهة الفريق «كوال ميانق» مرشح الحركة الشعبية. ويأتي تمرد «أطور» على خلفية خسارته الانتخابات، فنفذت قواته هجوماً على معسكر للجيش الشعبي في 6 مايو 2010م بأعالي النيل وقتل (53) شخصاً. و»أطور» الذي أعلن تمرده على الجيش الشعبي الذي يشغل فيه موقع الرجل الثالث من حيث التسلسل العسكري؛ هو ذات الجنرال الذي تمرد في 16 مايو 1983م ضمن الكتيبتين (104) و(105) في كل من توريت وآيوت ضد الحكومة في الخرطوم، وفي عام 1991م إبان انشقاق الحركة الشعبية، إنشقاق الناصر، الذي قاده د. رياك مشار، و»توريت» الذي قاده د. جون قرنق، انحاز «أطور» إلى مجموعة توريت في صراع خلّف الآلاف من الضحايا من مواطني الدينكا والنوير، القبيلتين اللتين ينتمي إليهما الزعيمان المتحاربان. وما أن أعلن «أطور» انشقاقه عن الجيش الشعبي عقب اتهامه للحركة الشعبية بتزوير الانتخابات لصالح منافسه «كوال ميانق»؛ حتى أعلن كل من العميد «قلواك قاي» و»مايكل كورشيل» تمرداً ضد الجيش الشعبي بولاية الوحدة، إضافةً الى «ديفيد ياوياو» قائد مجموعة الكوبرا بنهر البيبور، فدخلت تلك المجموعات في معارك شرسة مع الجيش خلّفت ما يقارب (1500) قتيل من الطرفين، إلى أن توصل الطرفان الى هدنة لوقف القتال، وأعلنت المجموعات المنشقة عن مطالبها للتفاوض مع حكومة الجنوب، التي شملت إلغاء نتائج الانتخابات وتشكيل حكومة قومية تشرف على الاستفتاء وعقد مؤتمر جامع لكل الأحزاب السياسية وفتح التحقيق في مقتل «د. جون قرنق» وتقديم المتورطين للمحاكمة، ولكن سرعان ما انهارت الهدنة عقب لقاء جوبا للأحزاب السياسية لجنوب السودان الذي تبنت فيه الأحزاب ضرورة تشكيل حكومة قومية بعد الاستفتاء؛ الأمر الذي قبلت به الحركة بعد جدال طويل كاد يؤدي لانهيار المؤتمر، إلا أن المجموعات المنشقة ظلت تتهم حكومة الجنوب بعدم الجدية والمماطلة في تنفيذ مقررات الحوار الجنوبي - الجنوبي الذي شاركت فيه تلك المجموعات؛ الأمر الذي عجّل باستئناف المعارك بين الطرفين، حيث قُتل في أقل من أسبوع في منطقة جونقلي ما يقارب (286) شخصاً من الطرفين، في وقت هدد فيه مقاتلو المجموعات في ولاية الوحدة بشن حرب شاملة بولاية الوحدة الغنية بالنفط تنفيذاً لأوامر قائد المجموعات المنشقة الفريق «جورج أطور» الذي أعلن انتهاء الهدنة بينه وحكومة الجنوب مع اقتراب موعد حق تقرير المصير. فيما شهد شهرا مايو ويونيو 2010م نشاطاً سياسياً ودبلوماسياً من قبل الحركة الشعبية رمت من خلاله إلى بلورة موقف دولي داعم للانفصال، حيث زار الأمين العام للحركة الشعبية «باقان أموم»، الولاياتالمتحدةالأمريكية، واشتملت الزيارة على لقاءات مع كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية ومندوبي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة وكذلك مع مديري الشركات النفطية الأمريكية، وأكد «أموم» في تلك اللقاءات أن الحركة حسمت خيارها لصالح الانفصال. وبناءً على لقاءات «أموم» بكلٍ من نائب الرئيس الأمريكي «جون بايدن» ووزيرة الخارجية «هيلاري كلينتون» ومستشار الأمن القومي «جيمس جونز» وكبير مستشاري أوباما للشؤون الأفريقية في مجلس الأمن القومي «ميشيل جافن»؛ أورد تقرير المحللين الأمريكيين أن الحركة الشعبية حسمت خيارها لصالح الانفصال وإقامة دولة في جنوب السودان، وهو ما أكده مندوب الحركة الشعبية بواشنطون «ازيكل جاكوث» الذي حضر اجتماع رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ونائب الرئيس الأمريكي «جون بايدن» - طبقاً ل»سودانايل» - الذي كشف فيه «جاكوث» أن الأمين العام سيدلي بشهادته التي ستتركز حول موضوع اتفاقية السلام والاستفتاء وعلى انفصال الإقليم في يناير القادم، كما يدلي بشهادة حول مسار تنفيذ اتفاقية السلام في الكونجرس الأمريكي، وهو ذات الاتجاه الذي أكده نائب الرئيس الأمريكي «جون بايدن» في 9 يناير 2010م عندما أكد في تصريحات صحفية قائلاً: «إذا إختار الجنوبيون الانفصال فإن أمريكا ستعترف بقيام دولة في الإقليم وسنعمل على دعم الحكومة لتكون مستقرة». فيما وصل الأمين العام للحركة الشعبية إلى نيويورك والتقى بكبار المسؤولين في إدارة الرئيس أوباما، كشف تقرير المحللين الأمريكي أن المجلس القومي الأمريكي قرر تقديم مبلغ (150) مليون دولار للحركة الشعبية من أجل تنظيم الاستفتاء وذلك بناءً على طلب «أموم» وسيكون هذا المبلغ دفعة أولى من المساعدات الأمريكية. وفي أكتوبر 2010م أعلن سلفاكير رسمياً انحيازه لخيار الانفصال، وقال مخاطباً جماهير مدينة جوبا الذين خرجوا إلى استقباله عقب عودته من نيويورك: «في تقييمي الشخصي حول قضيتيْ الوحدة والانفصال؛ فأنا سأصوِّت للانفصال»، وأردف قائلاً: «إن مسألة الاستفتاء لا تأتي إلا مرة واحدة فعليكم أن لا تفوّتها». وبهذا وضع «كير» مواطني الجنوب أمام ما تريده الحركة الشعبية وهو خيار الانفصال الذي تطمئن فيه الحركة لموقف الدول الكبرى في نيويورك، التي دفعتها لذلك الخيار. فيما شهد 16 سبتمبر 2010م بداية التسجيل لاستفتاء مواطني الجنوب الذي صاحبته العديد من المخالفات التي لا تقل عن التي حدثت في الانتخابات، وتخوف العديد من المواطنين في الجنوب من أن تجبرهم الحركة على التصويت لصالح الانفصال، كما حدث في الانتخابات التي عذبت فيها الحركة المواطنين ضرباً بالسياط وحرقاً بالنار، فيما فقد آخرون أرواحهم.