{ أخذتنا ولاية الخرطوم الأسبوع الفائت في رحلة دائرية على متن «بص الوالي» للوقوف ميدانياً على المشروعات التي ستفتتح بين يدي أعياد الاستقلال. وفكرة اللقاء لا تخلو من أدب الحصافة والذكاء؛ أن تعقد مؤتمراً ميدانياً على متن بص، على أن البص نفسه هو واحد من المشروعات التي ذهبت في طرقات التطبيق وتجاوزت «جدل الهايسات والحافلات». { ولما كان بطل هذا اللقاء هو وزارة الشؤون الهندسية؛ فإن تطوافنا قد انحصر على «مشروعات الطرق والجسور» وكان «بيت قصيد الرحلة هو «جسر الحلفايا الحتانة»، المكتسب الرئيس الذي سيقام على سفحه من الجهة الشرقية «جهة الحلفايا» الاحتفال الرسمي للدولة بالاستقلال في السابع من الشهر الجاري، اللقاء الجماهيري الذي سيشرفه السيد رئيس الجمهورية. والحلفايا إحدى عواصم وعناوين مملكة وتاريخ العبدلاب، تستحق أن تكون موطناً للاحتفال ومعبراً وجسراً بين ضفتيْ التاريخ؛ الماضي التليد والمستقبل المجيد. ولم تفُت هذه الدلالات على حكومة السيد الخضر وهي تطلق اسم المك عبد الله جماع على أحد المشروعات المصاحبة للجسر، كما لو أنها تدرك جيداً أنها تؤسس لنهضة شاهقة على ركام تاريخ هائل. ليحق لنا بعدها وبجدارة واستحقاق أن نتغنى عند سفح أعياد الاستقلال ونطلق أسر نشيدنا الأشهر «اليوم نرفع راية استقلالنا.. ويسطّر التاريخ مولد شعبنا.. يا إخوتي غنُّوا لنا». ومن جهة أخرى فإن هذا الجسر يستحق أن يكون معبراً لأعياد الاستقلال وذلك لكونه الأعظم والأضخم من بين جسور بلادنا، يبلغ طوله (910) أمتار وعرضه (17) متراً وكلفة جسد الجسر فقط قاربت الخمسة وأربعين مليون دولار أمريكي، بحيث لم يضار أحد من مُلاّك الأراضي؛ فالتعويضات بالضفة الشرقية فقط قد فاقت الخمسة وأربعين مليار جنيه. تزيّن الجسر بمسجدين راسخين؛ مسجد الشهيد إبراهيم شمس الدين بجهة الحلفايا ومسجد الولاية بضفة الحتانة. ولا تخلو دلالات المآذن والشهداء من بعض الرسائل والرسالات وهي تتسور الجسر؛ فالعبور والهجرة إلى آفاق المستقبل قد كتبت مبدأ «بدماء الشهداء» ومهرت بتكبيرات المآذن وبمعنى آخر تنشيط ذاكرة الشعب بأن هذه المكتسبات المادية تنهض على مشروع فكري وثقافي لم تخمد أطروحاته أو تُقبر، بل في هذه المواسم تتجدد بعض الأشواق. وربما ذكّر القائد في «يوم الحلفايا الأكبر» ببعض مما قاله في أعياد الحصاد «بمدينة الفيتريتة» سلة غذاء السودان «القضارف»، على أن اللغة العربية هي «اللغة الرسمية» وان الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع وأن تاريخ الشهداء الملهم الرسمي للأخيلة والمكتسبات وبعدها «سجن سجن.. غرامة غرامة» في محاكم المجتمع الدولي وقاعات ومؤسسات الاستعمار الجديد، كما يتخوف البعض بأن الجهر بهذه المؤشرات ستجلب لنا الشقاء والأساطيل الأمريكية، ومن قال لكم إن أمريكا قد غفلت يوماً واحداً عن السودان؛ فمنذ خمسة وخمسين عاماً، هي عمر الاستقلال، وواحد وعشرين عاماً، هي عمر الإنقاذ؛ لم تذهب واشنطن في كل ليلة لتنام دون أن تبيِّت ما لا يرضى من القوى والفعل تجاه أمة السودان. { يأتي افتتاح جسر التاريخ قبيل مواسم الاستفتاء ليقرر الشعب هنا على جسر الحلفايا «مصير مستقبله» على أن الانفصال إذا ما وقع ، لن تقع هذه الأمة المعطاءة في هوة الظلام، ولن تعطل ماكينات إرادتنا، وأن التاريخ لن يتوقف وينتهي في هذه المحطة. الله وحده أعلم، والصادقون يعلمون بأن الشمال قد استضاف وأطعم وأوى واحتضن وقدم كل ما يملك لاستشفاء هذا الجزء العزيز من جسد الأمة، ولئن بُتر هذا العضو سنتألم بعض الوقت، ولكننا في المقابل لن نتوقف كل الوقت في هذه المحطة ولن ننصب خيام العزاء إلى يوم القيامة وسينتهي المأتم بانتهاء مراسم الاستفتاء. { تتكاثر عليّ الأعياد بصفة خاصة لكوني أنتمي لمملكة العبدلاب عشائرياً وأنتمى لتاريخ الاستقلال وطنياً وأنتمى وجدانياً لهذا النيل وأنتمي أدبياً لهذا الشعب المعلم العظيم، ولا نعرف بمن نحتفي في هذا اليوم. { شكراً حكومة ولاية الخرطوم، لهذا العبور والافتتاح وتأجيج مشاعر الاستقلال.