في ذاك الصباح كانت نساء قشلاق الشرطة بالخرطوم، يقفنَ على أمشاطهنّ ينظرنَ ماذا صنع التطور المعماري بحقهنّ في السكن، كزوجات لنظاميين لا يملكون من حق السلطة التي لديهم، الثراء الذي يحميهم من حضور الفقر كل نهاية شهر يبحث عن إيجاره الثابت عندهم! وكنّ يعرفنَ تمام العلم أن الأمر قد قُضي ولن يجدي معه وقفة أو ونسة قهوة، أو حتى احتجاج كسيح. فما اكتسح أرض القشلاق كمنطقة خاصة بنظاميين الشرطة تحديداً هو الموضة الجديدة في مدينة الخرطوم، من بيع مكان الأرض كمساحات استثمارية لشركات هندسية تقيم فيها ما شاء الأسمنت من ناطحات وأبراج ومخططات سكنية تباع بالمتر المربع وبالعملة الأجنبية. وهذا اكتساح مبرر بضرورة النقليّات وانتهاء مدة الخدمة، ولا شك بخرافة مكان الموقع بالنسبة لأي مستثمر يعرف قيمة الأرض لا مَن عليها! فمن هم عليها يعرفون أن قيمة وجودهم مرهونة بفترة قضائهم للخدمة النظامية - إن كانت للشرطة أو الجيش - وأن دخولهم أو خروجهم منها مرهون كذلك بأمر فقط من الإدارة التي يتبعون لها وبدون احتجاج أو نقاش، كما يحلو لهم (تعليمات). وما تعلمته النسوة هناك أن قيمة المكان لا تعلو فوق قيمة الإنسان، وأن انقطاع سبيل الجيرة بينهنّ هو المؤلم أكثر من صعوبة إيجاد منزل مناسب بإيجار معقول يتناسب والمورد المالي المحدود جداً للنظامي، حتى وإن كان مقسوماً على اثنين، نصف كل شهر. وتعلمنَ أن ارتفاع منسوب الدموع في عيونهنّ لن ينجيهنّ من طوفان الإزالة كما حدث في ثلاثة (قشلاقات) غير الحالي في جنوبالخرطوم طيب الذكر. وصرنَ يعرفنَ ببالغ الحذر أن يضبطنَ دقات الباب على ساعة الدفع المقدم لتعويض الخسارة الإنسانية والمكانية بما سيتم تسليمه لهم كمبلغ مالي مقدر - بعشرة ملايين/ بالقديم أو أقل - لتسديد ديون الرحيل والفقر وزيادة الأسعار! أما السعر المعروض منذ الآن لقيمة المتر المربع للمساحة هناك باعتبارها درجة أولى في تقييم أهل المساحة بالأراضي، فيفوق بمراحل ضوئية الأصفار العشرية الممنوحة لتلك الأسر، والتبرير المنطقي طبعاً أن هذه الأرض ملك حر للدولة تصنع بها ما تشاء وتسكن فيها من تشاء وتعرضها للبيع في المزاد العلني، كذلك كما تشاء. ولا اعتراض في حكم الدولة ممثلة في كافة وزاراتها المعنية بأمر الإزالة والتعويض والتخريج لوفود النظاميين، لكن أليس من المنصف منحهم مكاناً تبعاً للموضة السكنية الرائجة منذ زمان بتمليك القطاعات سكناً - شعبياً - في أقاصي أرض الخرطوم كنوع من المساعدة للمواطن غير المالك لقطعة أرض في بلده إن كانت عن طريق التخطيط السكني أو البيع والشراء أو الحيازة - وهذه أمرها عجب. والعجيب في الأمر أن الاحتجاج الصامت الذي تثور به نساء القشلاق، يتبناه الرجال المعنيون لكن بشكل أكثر همساً، فهم بشكل آخر من تقع عليهم مسؤولية دفع ثمن الاحتجاج إن كان من راتبهم أو رتبهم أو مراتبهم! وما يترتب عيه ذلك من حرمان لحظي وزمني طويل من كافة امتيازات، تسد ما استطاعت فتحات الحاجة في حوائطهم المتهالكة، التي هي واحدة من الثغرات التي أخذت بعين الاعتبار في مسألة الإخلاء هذه. هذا من وجهة نظر، ومن أخرى فإن القشلاق يمثل نوعاً من المعمار التراثي في وقت من الأوقات السكانية بالخرطوم، ومدينة مختصة بفكر هندسي متقدم من المساواة بين الأمكنة - وكان أستاذنا للغة العربية يسهل لنا تشابه فعل كان وأخواتها القاعدي ببيوت القشلاق! - وبالضرورة بخاصية سكانها المتماثلة في الثقافة والبيئة النشئية والاهتمام - الاجتماعي والمهني، كما أنه المساعدة المقدرة والشكر والتقدير الموقر لرجل يخدم البلد بانخراطه في النظام العسكري أو الشرطي. وشرط التطور العمراني المشرع الآن على مصراعيْ كافة المساكن والمشاريع السكنية البسيطة والباسط ذراعيه بالوصيد المعماري لأية شركة مستثمرة تلوّح بالنقد الأجنبي لوزارة أو هيئة أو ولاية، هو شرط قائم على التغاضي عن حقوق المواطنين حتى وإن كانوا نظاميين يأتمرون بالتعليمات، وببيع القشلاق فإن صيغة قانون دخول أي مزاد آخر لبيع مكان، أو إنسان، لن تشترط التراضي أبداً!