لم يكن يخطر ببال أحد أن تصل الأمور في مصر إلى ما وصلت إليه الآن، فالمشهد في القاهرة أصبح ضبابياً، لا يمكن لأحد أن يتوقع ماذا سيحدث، فهل ستنجح هذه الجموع الغفيرة من الشعب المصري في إسقاط النظام، أم أن الأخير سيستطيع أن يلتف حول المطالب الشعبية بتشكيلٍ حكوميٍّ جديد يتكون من شخصيات مقربة من الشعب، واستبعاد شخصيات أخرى استفزت الجماهير كثيراً في الحكومة السابقة؟ البعض يرى أن النظام في مصر سوف يهدئ من روع هذه الجماهير الثائرة في ربوع مصر بتقديم شخصيات للمحاكمة، كانت قد استبدت كثيراً، منها أحمد عز، أمين التنظيم السابق بالحزب الوطني، الذي كان يحتكر الأسواق المصرية في سلع مهمة وحسّاسة بشكل مستفز أمام أعين النظام والحزب الحاكم، ولم يستطع البرلمان المصري اتخاذ أي إجراء ضده، فكان الرجل دائماً مسيطراً على المجلس بجبروت غريب. الشخصية الثانية هي وزير الداخلية المصري حبيب العادلي الذي وصلت في عهده انتهاكات كثيرة من قبل رجال الشرطة تجاه أفراد الشعب، تارة بالتعذيب، وتارة أخرى بالاضطهاد والإهانات. ويتوقع مراقبون أن يرى التشكيل الجديد إبعاداً لكل الشخصيات التي كانت لها مشاكل مع الشعب مثل وزير التربية والتعليم أحمد زكي بدر، ووزير المالية يوسف بطرس غالي. الجديد في المشهد أن الرئيس مبارك كلف رئيس وزرائه الجديد الفريق أحمد شفيق الذي كان وزيراً للطيران المدني في الحكومة السابقة، بالحوار مع المعارضة حول التعديلات السياسية والاقتصادية بالبلاد، في تحول كبير في طريقة النظام، فبالأمس القريب كان لا يمكن لنا أن نتصور مثل هذه الحوارات على الإطلاق، ولكن يبدو أن الرئيس المصري يحاول أن يبدأ حقبة جديدة في تاريخه بتصحيح أخطاء ما كان ممكناً أن تحدث في ظل الهيمنة السابقة، وقد بدا هذا التغيير في تعيين شخصيتين مثل اللواء عمر سليمان مدير المخابرات العامة المصرية نائباً للرئيس في أول مرة لمثل هذا المنصب منذ تولي الرئيس مبارك منذ ثلاثين عاماً، وسليمان يتمتع بهدوء وذكاء كبيرين، ويحمل ملفات كبيرة حساسة في الدولة، أما الشخصية الثانية فهي الفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء الجديد وهو رجل يتمتع بعقلية إستراتيجية وعملية مباشرة، ورجل يثق فيه الناس كثيراً. بالإضافة إلى أبرز التعيينات التي تمثلت في كل من اللواء محمود وجدي وزيراً للداخلية، وهذا يؤكد تماماً رحيل العادلي الذي استفز الشعب كثيراً، ولكن تأخر الرئيس مبارك في هذا التغيير استفز الجماهير التي ظلت في الشوارع طيلة أربعة أيام ليخرج إليهم الرئيس مع نهاية اليوم الرابع ويعلن لهم هذا التغيير، ولكن الجماهير كانت قد ذهبت إلى أبعد من ذلك بضرروة تغيير النظام كله، بالرغم من أن هذا التغيير لو جاء أبكر من ذلك لكان له وقع السحر والطمأنينة على الناس. كما زاد من عناد وتعصب الجماهير وثباتها على موقفها مقتل أكثر من (100) شخص على أيدي رجال الشرطة في المظاهرات وإصابة أكثر من ألفي شخص حسب ما هو معلن إلى الآن، وتحول الأمر لدى المتظاهرين إلى عملية ثأرية من النظام وأمنه. الملاحظ أنه في بداية انفجار الشارع المصري كانت الدعوة مجرد نداءات على المواقع الاجتماعية مثل (فيس بوك) و(تويتر) وغيرهما من مواقع الشبكة العنكبوتية، وحاول الأمن المصري أن يتعامل معها بهدوء ودون تدخل خشية ما حدث بتونس، كان التصور أن هؤلاء الشباب سوف يخرجون لمدة لا تتجاوز الساعات وسوف ينفضون سلمياً أو عن طريق القوة، ولكن الأمر هذه المرة فاق التصور، وتجمع لأول مرة منذ عقود طويلة في تاريخ مصر عشرات الآلاف من الشباب الغاضبين، بما فاق كل إمكانيات الأمن، لنرى لأول مرة كسراً لحاجز الخوف من الشرطة ورجالها. ويرى كثير من المراقبين أن كسر الخوف من الأمن في مصر كان بداية شرارة هذه الانتفاضة العارمة، لتنسحب الشرطة، ويحل الجيش مكانها في سيناريو لا يمكن أن يصدقه عقل، بأن نرى دبابات الجيش المصري قابعة في قلب العاصمة المصرية وسط ميدان التحرير، ويتحمل الجيش حماية المتظاهرين، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وحماية الناس أنفسهم، بعد فرض حظر تجول في مشهد آخر غريب لم يتعود عليه المصريون منذ عقود طويلة، وتختفي وزارة الداخلية ورجالها من المشهد تماماً، الأمر الذي ساعد على انتشار عصابات للنهب المسلح داخل الأحياء والمدن المصرية بنفس الطريقة، ويؤكد شهود عيان أنهم يركبون عربات ويطلقون الأعيرة النارية في الطرقات والحواري في الأحياء الراقية قبل الشعبية والنائية، يرهبون الناس ويتعدون على ممتلكاتهم، في غياب تام للأمن، الأمر الذي جعل الشباب المصريين يشكلون لجاناً شعبية للدفاع عن الناس وتنظيم المرور في الشوارع! لمساعدة قوات الجيش التي لا يمكنها وحدها بسط الأمن في كل الأماكن. هذا المشهد ينقلنا إلى الشباب المصريين الذين ظلوا متهمين على مدى العقود الثلاثة الأخيرة بأنهم شباب مستهترون غير واعين، لا يعلمون أي شيء عما يدور حولهم، لنجد أنفسنا أمام شباب واعدين منظمين يقظين مخططين قادة، أشعلوا الانتفاضة بتنظيم عال، وحافظوا على الممتلكات والأرواح والأعراض، يبدو من شعاراتهم التي رفعوها بأننا أمام شباب يعون مايريدونه، لديهم برنامج واضح ومحدد ومباشر، فإذا كانت الأحداث في مصر قد خلقت توتراً وانفلاتاً أمنياً وتراجعاً اقتصادياً ملحوظاً، يكفي أن المصريين جميعاً اطمأنوا على مستقبل شبابهم الواعين المتحضرين، فهؤلاء الشباب هم ثمار نجاح هذه الانتفاضة. المشهد في مصر أيضاً شهد بروزاً لشخصيات معارضة حاولت الانضمام إلى الانتفاضة، البعض يرى أنها ظهرت لتركب الموجة وتكون الواجهة السياسية لهؤلاء الشباب المناضلين، مثل محمد البرادعي المدير العام السابق لهيئة الطاقة الذرية، الذي عرض استعداده لتولي شؤون مصر بعد ذهاب الرئيس مبارك. فيما ذهب البعض الآخر إلى أن بروز المعارضة المصرية وعلى رأسها الإخوان المسلمون حق للجميع، على أنهم نسيج للشارع المصري ومن حقهم المشاركة. ويرى مراقبون أن ظهور الإخوان المسلمين تحديداً في المشهد لعب عليه النظام في ترهيب المجتمع الدولي بأنهم سيكونون البديل الأقوى في مصر، وهذا ساعد بشكل كبير في تثبيت الأمريكيين وعدم انتقادهم النظام المصري بشكل مباشر، فمبارك ونظامه أفضل في نظرهم من الإخوان المسلمين. المنظر الأسوأ في ما تشهده مصر هذه الأيام هو حالة الفزع والرعب التي تجتاح كل الشوارع المصرية وخاصة القاهرة التي عاشت مستقرة على مر الزمان، فما إن يدخل الليل إلا ونسمع استغاثات من نساء وأطفال ورجال ب«أغيثونا»، فهناك عصابات ولصوص في الشوارع يطلقون الأعيرة النارية لإرهاب الناس، وأصبحت وسائل الإعلام هي المكان الذي يستغيث فيه الناس بدلاً عن أقسام الشرطة التي اختفى رجالها عن المشهد تماماً، الشرطة من جانبها تنفي ما يردده الناس من أنها هي التي تنطلق في الشارع لفعل هذا الترهيب. هذا الأمر جعل الرعايا الأجانب يهرولون ناحية مطار القاهرة للفرار من هذا الرعب، وبعدما كانت العاصمة المصرية قبلة للجميع نشاهدها في مشهد آخر مفزع طاردة بعدما كانت جاذبة!! الملفت في المشهد المصري هو أن هذه العصابات تنطلق في معظم المدن والمحافظات المصرية بنفس الطريقة وبإطلاق النار على الرغم من أن السلاح غير منتشر في مصر على عكس دول كثيرة، كما أن هناك مجموعات كثيرة انطلقت وفي وقت واحد أيضاً إلى السجون لإطلاق سراح المسجونين في معظم سجون البلاد، ليخرج أكثر من (5) آلاف سجين، ليعود الجيش بعد ذلك ليؤكد أنه تم القبض على كثير منهم ورجوعهم إلى السجون مرة أخرى!! المنظر الآخر المحير في المشهد أن الجيش ينزل إلى الساحات والميادين دون التعرض للمتظاهرين، بل نجد صورة طيبة والتحاماً بينهما، إلا أننا في ذات الوقت نجد أن الجيش يحتوي الرئيس، والعجيب في هذا الأمر أنه في مثل هذه الحالات على الجيش أن يختار بين النظام والشعب، ولكن يبدو أن الجيش في مصر اختار الاثنين معاً! المشهد الكلي الآن بمصر ضبابي وغير معروفة نتائجه، وغير متوقع على الإطلاق، فالخلاصة ملايين من الشعب في الشوارع تنادي بإسقاط النظام، ونظام يرى أن هذه الملايين لا تمثل الشعب ويقوم بتعديلات سياسية واقتصادية لامتصاص غضب هذه الجماهير، فمن المنتصر؟ سؤال صعب يبدو أن إجاباته ستكون ربانية، مثلما كانت بداياته وتطور أحداثه أيضاً ربانية. ويبقى أن الشرطة المصرية لو كانت صادقة في ما ذهبت إليه بأنها لم تكن السبب وراء انفلات الأمن وإرهاب الناس، فأين ذهب رجال الشرطة المصرية منذ الجمعة الماضي؟ لماذا ذهبوا؟ وأين ذهبوا؟ ولماذا عادوا في هذا التوقيت؟ فهل هي فوضى خلاقة لإرهاب الناس وإجبارهم على تأمين منازلهم وأسرهم وترك التظاهر؟ أم أنها رسالة بأن النظام هو صاحب الأمن وبرحيله ستكون القاهرة عبارة عن غابة تعوي فيها الذئاب؟ وإذا كان الأمر كذلك ألم تفكر الشرطة في طريقة تعامل الشعب بها بعد ذلك؟ ألم تخش الشرطة ووزارتها انعدام الثقة فيها؟! على أية حال أمامنا أيام فاصلة في تاريخ مصر المعاصر، فإما سيطرة النظام الحالي بشكل جديد وإما نظام جديد تماماً تبدأ به مصر عهداً جديداً.