جمهورية مصر العربية، هي الدولة العربية الأولى من حيث الثُّقل الثقافي والسكاني والتاريخي والنضالي، يسكنها أكثر من ثمانين مليون مواطن، هي بلد الأزهر الشريف والجماعات الإسلامية التاريخية، فعلى الأقل أن كل الحركات الإسلامية قد خرجت من عباءة «جماعة الأخوان المسلمون» التي أسسها الشهيد حسن البنا قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، بل ربما كانت مصر هي «المهد الأول» لكل المدارس السياسية والفكرية والفنية والتحررية والأدبية، وليس الشهيد حسن البنا وحده من يحتفظ «بإمارة الحركات الإسلامية»، فقد تُوّج أحمد شوقي أميراً للشعراء العرب، وطه حسين عميداً للأدب العربي، وكلما ذُكرت الثورات التحررية، يُذكر الزعيم العربي الكبير جمال عبدالناصر، حتى في مجال الفنون تُذكر المطربة أم كلثوم «المطربة العربية الأولى»، ولم تترك مصر شيئاً للآخرين، حتى في مجال الرقص الشرقي و(هز الوسط) تُذكر الراقصة المصرية فيفي عبده. لهذا وذاك قد احتفظت مصر دائماً بمركزية القرار العربي ومحوريته، فكانت على الدوام المقر الدائم لجامعة الدول العربية وأمانتها العامة. { غير أن جيرتها «للدولة العبرية الصهيونية» قد زاد من تعقيدات أدوارها، فإذا أشهرت مصر سيفها في وجه دولة بني صهيون، فإن مئات الآلاف من السيوف العربية تُشهر، وإذا صالحت مصر فإن كل السيوف العربية والأعلام القتالية تُنكّس. { لكن مصر منذ (كامب ديفيد) قد حُيِّدت في الصراع العربي الإسرائيلي، وتبادلت المشاعر والسفارات والصداقات مع دولة العدو الصهيوني، وفي المقابل قد فرضت رقابة شديدة في الفترة الأخيرة على المعابر التي تربطها بقطاع غزة، وإذا علمتم أن هذه المعابر هي بمثابة الأوردة والشرايين التي يتغذى بها ذلك القطاع، فيبدو الأمر كما لو أن حكماً «أمريكياً إسرائيلياً» بالإعدام قد صدر على ساكني هذا القطاع، وأن «مصر مبارك» مصر كامب ديفيد، هي التي تُنفذ هذا الحكم، والقصة كلها أن دولة مصر، ووفق استحقاقات اتفاقية سلام كامب ديفيد، تتلقى دعماً سنوياً من واشنطن يُقدر بملياري دولار أمريكي، فمصر هي الدولة الثانية أو الثالثة -لا أدري- في قائمة الدول التي تتلقى دعماً أمريكياً. فإسرائيل ومصر وباكستان هي أكثر ثلاث دول تتلقى دعماً أمريكياً مباشراً. { لم تكتف واشنطن بتوريد حصة القمح السنوية التي يستهلكها الشعب المصري، ولكنها وضعتها تحت الرقابة الدولية، بحيث لا تدعها أن تذهب في إيجاد بدائل اقتصادية أخرى للتحرُّر من هذا القيد (الكامبديفدي). ويذكر في هذا السياق أن الإنقاذ في بدايتها قد وضعت كل الأراضي السودانية الزراعية تحت خدمة المزارع الصعيدي المتمرّس، لكن واشنطن كانت بالمرصاد، لتعلموا أيها السادة الأماجد أن القصة كلها تبدأ بالقمح وتنتهي بالقمح، وأن المأزق المصري والعربي والإسلامي يكمن في أن لا أحد بإمكانه أن يحكم مصر الآن بمعزل عن «دائرة واشنطن وتل أبيب»، ليس بإمكان الإسلاميين ولا الوطنيين أن يحكموا مصر الآن، فمن أراد أن يحكم مصر الآن لابد أن يتعهد بشيئين اثنين هما، الاحتفاظ بسفارة دولة الكيان الصهيوني، وبتشديد الرقابة على معابر غزة، وذلك على أقل تقدير، وهذه فواتير باهظة لا يستطيع أن يدفعها إلا الرئيس الحالي حسني مبارك، أو أن يؤتى برجل مصري أمريكي آخر، وهنالك مجموعة من العملاء يقدمون خدماتهم الآن من بينهم السيد البرادعي «بطل حريق بغداد» وآخرين. { سادتي إن التغيير والتحرُّر العربي والإسلامي يبدأ بالإكتفاء الذاتي من القمح، وإذا أنت لم تملك قمحاً كافياً، فلا تملك حق أن تصنع ثورة حقيقية. إذن.. قوموا لزراعة حقولكم.