تلقيتُ قبل أسبوع الخطاب المرفق مع هذا المقال من سعادة الدكتور جعفر البريق رئيس تحرير مجلة البحرين الطبيبة الذي يبلغني فيه بأنني فزت بالجائزة الأولى لأحسن بحث علمي خلال عام 2010م نُشر بالمجلة الطبية وأنني سأتلقى جائزة مالية وشهادة تقديرية من الشيخ محمد آل خليفة ودرع تذكاري، وشكرني على ما أُساهم به في الوطن العربي من مشاريع وأبحاث علمية تخدم تقدم الأمة. بعد ذلك اتصل بي هاتفياً ليبلغني مباشرةً ويدعوني لحفل تسليم الجائزة بمباني الكلية الملكية الآيرلندية للجراحين يوم الخميس 21 أبريل 2010م وقد ذكر لي أن الدراسة نالت تقييماً عالياً من محكمين عالميين ومحكمين محليين ثم أشاد بنا كسودانيين مما جعلني أحس بالفخر والسعادة. كان رد فعلي أن يشاركني أهلي وأحبتي من بني وطني هذه السعادة فقمت بإدراج خيط بموقعي على الإنترنت وموقع سودانيز أونلاين حتى أنقل للقراء هذا الخبر السعيد. كان الاحتفاء مقدراً من معظم المتداخلين لكن ما استوقفني إحساس البعض بأن الإعلام عن الإنجازات على المستوى الشخصي يعتبر ضرباً من ضروب النرجسية وأن على المرء أن ينتظر الآخرين ليتحدثوا عنه بدلاً عن الحديث عن النفس. للأسف هذا النوع من التواضع غير المحبب لا يخدمنا ولا يخدم سمعتنا ولا عطاءنا، بل يؤطر من قوقعتنا وجعلنا في حواف النسيان وغياهب الجهل بنا والتجاهل. الخوف من الاتهام بالنرجسية والتقيد بنوع من التواضع يجعلنا متواضعين في عطائنا لأننا إن لم نقيِّم أنفسنا فسنظل هكذا مغمورين، والإعلام فن وصنعة والإعلام عن الذات عبر الملفات الشخصية والسير الذاتية أصبح علماً يُدرس وتحضَّر به شهادات عليا كالماجستير والدكتوراه. لاحظت أن صفة النرجسية تطلق على عواهنها في السودان وأعتقد أن من يستخدمون هذه الكلمة يقصدون بها محاولة التقليل من شأن الآخر دون معرفة علمية لما تعنيه هذه الكلمة، وهذا الأمر يزيد من حساسية المبدع السوداني من إبراز قدراته وإمكانياته خوفاً من الاتهام بالنرجسية، ولا أعتقد أن هناك أمة - إلا نحن - تستخدم هذه الصفة لمحاربة مبدعيها وقتل شخصيتهم وليس بغرض النقد البناء والتوجيه المعافى من كل غرض. في مقال سابق تحدثت عن هذه الظاهرة وذكرت فيه أن الشاعر العملاق أبو الطيب المتنبي عندما قال: «أنا من نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صممُ الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ» استطاع أن يخلد نفسه على مر العصور دون أن يُتهم بالنرجسية. هذا ليس غروراً منه ولكن رحم الله امرئ عرف قدر نفسه وعرف كيف يباهي بنعم الله عليه بذكاء وحنكة «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ». وإذا لم يقيّم المرء نفسه ويقدمها في المحافل فسيظل مغموراً وليس متواضعاً وهو بكل أسف حال معظم السودانيين مها اختلف الزمان والمكان. فالمشكلة إذا تحدث أحدهم عن نفسه وكان يملك ما يتحدث عنه أصبح نرجسياً، وإذا كان يملك جزءاً مما تحدث عنه صار (بتاع شو)، أما إذا لم يكن المستمع يرتاح للمتحدث أو كان الأخير غير معروف لدى الأول ينطلق التساؤل التالي: «ده فاكيها في نفسو ولا شنو»؟ وهكذا نحن معظم أهل السودان غير البسطاء أو بمعنى آخر المثقفين إن صعد أحدنا إلى أعلى نتعلق بقدميه حتى ننزله إلى الأرض فنرتاح بعد ذلك وأيّما راحة هي!! أعرف الكثير من السودانيين المثقفين والمبدعيين والمهنيين والإداريين الذين كثيراً ما يتفوقون على أقرانهم من الجنسيات الأخرى لكنهم منزوون في أقصى ركن وزاوية وفاشلون في تقديم أنفسهم وإن فعلوا فبصورة ركيكة وهزيلة بينما الآخرون يجيدون تقديم أنفسهم لأنهم يدركون أصول اللعبة وفن صنعة الإعلام. نحن أهل السودان لا نقيّم أنفسنا ولا نعرف كيف نبرز قدراتنا للآخرين لذلك تظل فنوننا وثقافتنا مغمورة برغم جمالها ورونقها و تفردها الجميل. نحن لا نحس بذلك إلا إذا سطا محمد منير أو فرقة ميامي على إبداعنا فنغضب. حقيقةً نحن نستاهل التجاهل وعدم الانتباه لأننا نتجاهل أنفسنا ولا نميّز بين التواضع وعدم الثقة ونحارب من يتحدث عن إنجازاته منا ونتهمه بالنرجسية وبقية الأوصاف السودانية الأخرى. كما ذكرت أن الطريقة التي تقدم بها نفسك وأعمالك أصبحت منهجاً يُدرس في المدارس والجامعات ولطلاب الدراسات العليا في جميع المجالات، بل أن هناك مكاتب استشارية متخصصة في هذه الأمور وفي كتابة الملفات الشخصية والسير الذاتية. وبالله عليكم حدثوني كم من شاب يحمل طموحه ويذهب لمعاينة ما في لجنة اختيار أو لتوظيف يكون مدركاً لكيفية تقديم نفسه وأشيائه ويعرف متى يتحدث ومتى يصمت ومتى يبتسم ومتى يستخدم لغة العيون في التواصل والمخاطبة ومتى يستخدم التعبيرات اليدوية لنقل الفهم وإيصال معلومة معقدة؟ بالتأكيد عدد بسيط من الموهوبين أو ممن تدرب على أيدي الفرنجة داخل السودان أو خارجه. ناهيك عن طرق الحديث وآداب الحوار والمخاطبة والاستئذان ولغة العفو والامتنان فجميعها في وادٍ ونحن في وادٍ آخر. نحن نعقد أحوالنا ولا نعلّم النشء إبراز قدراتهم بل على العكس نطلب منهم الصمت ونزجرهم إن تحدثوا ونعلمهم الخوف والتواضع غير المحبب الذي اعتبره نوعاً من الإحباط الفكري والإبداعي المغروس فينا منذ الطفولة فيموت مبدعونا الحقيقيون قبل أن يولدون. لا بل وأكثر من ذلك، فنحن ندرس في المجتمع انتقاص مواهب الغير وبالتأكيد نسلب حقوقهم متى ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ودائماً ما ننظر للجزء الفارغ من الكوب أو حتى عندما نستمع للآخرين لا ننتبه إلا للهفوات والأخطاء ونتصيد الثغرات للتعليق السخيف في معظم الأحيان ونلحظ ذلك بوضوح في التعليقات السخيفة على بعض المواقع مثل اليوتيوب والصادرة تحت أسماء وهمية وفي بعض منتديات الحوار المفتوح. أذكر أيضاً عندما سردت ذكرياتي مع الراحل مصطفى سيد أحمد في عمود (عكس الريح) ضمن الملف الخاص به، تحدثت عن اليوم الذي سبق وفاته وذكرت عَرضاً أن عركي غنى في ذلك اليوم أغنية (قادوا فرح قبيلتو لي بت كرام الناس) التي أهداها لي وذلك من أجل المعرفة لأنني أعتز بها ووجدتها سانحة طيبة لأعرف القارئ الكريم بشيء أفتخر به وهو حق من حقوقي وحق من حقوق معجبي أبوعركي أن يعرفوا أن الأغنية كُتبت لشخصي الضعيف (بالتواضع السوداني المحبب). فإذا بأحد أصدقائي من الصحفيين يتهمني بأنني كنت نرجسياً في تلك الجملة الاعتراضية واقترح علي أن أفرد لها عموداً كاملاً لأن ذلك كان خيراً من ذكرها ونحن في مقام الراحل مصطفى! أحسست حقيقةً بالسعادة وبالغبن معاً؛ أحسست بالسعادة لأنه فتح هذا الموضوع لأكتب عنه اليوم وأحسست بالغبن لأنه ظل يحز في نفسي منذ وقت طويل وأنا أرى هذا التواضع السوداني السلبي يهضم حقوقنا ويجعلنا دائماً في طي النسيان وعدم المعرفة. مدخل للخروج: فليحفظ الله اختيارك يا وطن.. ويضمنا في ساعديك مع الزمن.. لا الموج يقصدك اجتياح.. لا الخوف يعصف لا الرياح.. فليأتِ ترياقُ الردى.. يسقيك ينبوع الندى.. وهج التطلع والفلاح.. والزهد والفرح المباح.. الضوء منك منارتين.. والشمس تشرق مرتين.. وبيتنا لا زال يبحث عن صباح..