يدير رجل دارفور (يوسف كبر) أكبر عملية رجوع إلى الجماعة مع الحركات المسلحة، بحسب ما تنقله الأخبار إلينا، يحقق بذلك ما سبقه إليه (د. عبد الحميد كاشا)، لكن بانعكاس حاد أكثر، حيث أن الأخير قرر عدم التعامل برخاء نسبي مع المتمردين، بإخراج وجهه الآخر الشين، فقد ملّ من أن يكون والياً رخواً في ما يتعلق بالحركات الجافة! وقد جفّ من قبل حلق الجميع في المفاوضات طويلة الأجل وطويلة النفس بين الحكومة ومتمردي دارفور، باختلاف رؤساء وفود الحكومة، من حكماء وصارمين ومتساهلين ومتنازلين! ولم يبتلّ حلقهم بماء، حتى قرر السيد رئيس الجمهورية أن يجفف الطريق أيضاً، كي لا يظن أحد أنها كحكومة لا تحسن القطع الجاف، لكن ذلك لم يحول مسار التفاوض إلى طريق أكثر بللاً، بل بدأت المناوشات والقتالات متفاوتة المقاسات بين فصائلها المنتشرة ومنشطرة - صراحة قد تهت في حساب أعدادها كحركات كما الأحزاب تماماً- وختمت الحكومة قولها الجاف كذلك بفعل لا يقل جفافاً عنه، بأن حولت الأمر إلى الحكومة المحلية في مناطق تلك النزاعات لتحسن إدارة أعمالها فيها، حتى لا تحاكمها الحكومة الاتحادية بأخطاء الحركات. وهي حركة ممتازة ومناورة رشيقة من الحكومة هنا، لكي يعرف الولاة هناك معنى أن تكون والياً على خلقٍ وراعياً لجماعة، فكان قرار (كاشا) بالمعاملة بالمثل، وأنه سيضرب في المليان حديثاً وأعيرة نارية! لكل من تسوّل له نفسه تهديد المنطقة وسكانها. وكان حديث (كبر) الصارم بأنه سيدير حواراً لإرجاع الضالين إلى طريق الحق - من وجهة نظره. المهم، المحصلة النهائية أن دارفور في مدنها وقراها وضواحيها، قد هدأت سرائر الناس، وانتظمت إلى حد ما حالة طقس نومهم وخوفهم من قطع الطريق والأحلام بالنهب أو الضرب. إن ناتج كل عمليات القسمة والضرب والطرح هو حالة الجمع هذه، بمحاولة استيعاب ما يريده المتمردون من حاجات ليست بالضرورة أن تكون ثروات في مطلقها، أو سلطات في مجملها، لكن بشيء من هذا وذاك، وبعض الإضافات مما يريده الناس. فالعملية الحسابية الخاسرة بقسمة الجنوب من ناتج مجموع السودان؛ تجعل الحكومة ببعض رجالها - فالبعض يعتقد أنها عملية رابحة حسابياً جداً!- يفكرون بأصابع آلاتهم الحاسبة قبل خلايا دماغهم العاطفي، في أن يكون الخيار لمعضلات السودان المختلفة فيه شيء من الإرجاع، إن كان تاريخياً أو جغرافياً أو جمعياً.. فالحكماء في هذه الأمة يعرفون أن تاريخنا بأزماته المستمرة هو حاضرنا بذات الأزمات، وربما مستقبلنا بأزمات منتجة جديدة، لذلك القوة في الجمع بتجديد. والجديد في دارفور الآن محاولة رسم ابتسامة واسعة على كافة الوجوه الحكومية والمتمردة، الملفوفة بقناع عسكري أو بعمامة سودانية عادية، الملتحية تشعثاً أو تشبثاً، المنبثقة من لجنة أو المنبثقة من حركة، المهم أن تكون الابتسامة فعلاً، يقول لك أن تبقى لا أن ترحل. إنها رحلة طويلة جداً إلى قمة سعادة دارفور، ما زالت لم تنته طرقاتها، ولا حتى فصولها الروائية قاسية التفاصيل، يمشيها رجال الحركات المتمردة، ورجال الحكومة الاتحادية، والولاة، بأحذية قوية تتحمل الطقس المختلف، من طين المطر إلى رمل الحذر وحرّ (الدرت)، ويمشيها أهل دارفور حفاة إلا من توقع رحمة الله، بطقس معتدل في القرارات، وعراة إلا من لباس الصبر على ما آل إليه الحال هناك. فإذا كانت فكرة إرجاع متمردي الحركات المسلحة وإعادة دمجهم اجتماعياً - من دون أسلحتهم - هي الاستثمار الإنساني كي ما تكون لأهل دارفور أحذية، وملابس، وسراير، وأحلام، وأمنيات - أم أنها ترف؟!- ومن دون تنازلات خفية؛ سيكون حلقنا مبتلاً كما كان جوف الأستاذ (عبد الباسط سبدرات) ندياً ذات تمرد شعري وعشقي (زمان) - الآن هو في تمرد جاف، وصوفي أقرب - (رجعنا لك وجينا غفرنا إنك بالوشاية قصدت كبت الفرحة فينا؟) لكن ليس ضرورياً معرفة من رجع ومن غفر..؟!