} سئل الشاعر المبدع محمد طه القدال عن دلالات قصيدته الشهيرة (مسدار أبو السُّرة لليانكي) فأشار إلى أنها جاءت كمحاولة منه لقيادة مظاهرة احتجاج خيالية إلى تمثال الحرية الشهير، ولم يزد! } وهي مظاهرة فريدة من نوعها، جمعت البشر والشجر والحجر ولم تستثن الدواب والزواحف والسحاب والسابحات في جوف الماء، حيث توجه أفرادها جميعا إلى التمثال وقادها القعوى والبلطي وقرقور السمك ودابى الخُشة وعمال الطمي (الصارقيلة والقرموط وودالموية) وعجال البحر، والقمري، والصقير، والحدي، ودابات الأرض (سنّور الغيب في الكنغو، صبراً من جنوب أمريكا، ومن كلهاري ديباً ضاري، والتمساح وليد أمزون، ونمراً في النمور كمبودي، وأم رخم الله مكسيكية) ! } ساروا كلهم إلى تمثال الحرية، يحتجون على ما يسمى زوراً بالعالم الحر (عالم حر يدوعل فوقنا لي يوم سوقنا) ، وتجمعوا بجواره، وبصقوا عليه، وجروا في عينيه واسوقهم، وسكب القدال حزنه بجواره، وألقى أبو السُرّة مسداره الأشهر في (مُشرع مسارب الضي) احتجاجاً على عمايل اليانكي (مرة معونة للغاف ومرة دوانكي) ! } ورفض (السحلي) بلسان القدال إشراك حكام العرب في تلك المظاهرة الفريدة، وعلل موقفه واصفاً إياهم بأنهم (توابع اليانكي) ، وقال: (خلوها العريب الغايبة، والسراق طبيقو معاهم، تيجاناً عروشها الخروع، الهش العويش، والنار تعلب فوق عقال العرش، ولا خسانا بى هادي العروش الهُربة، يا أبو السرة .. لا عقّال) ! } وعندما بادر الناشط المصري وائل غنيم (مدير تسويق شركة غوغل في الشرق الأوسط) بإنشاء صفحة على موقع (فيس بوك) الشهير باسم (كلنا خالد سعيد) ودعا إلى تنظيم مظاهرة الغضب يوم 25 يناير الماضي ظن كثيرون أن مظاهرته لن تختلف عن مظاهرة القدال الخيالية، وأن السعي إلى تغيير نظام راسخ ومتجبر باستخدام موقع للتواصل الاجتماعي الإلكتروني ضرب من الجنون، لكن النتيجة أذهلت العالم كله، وحولت أنظار مليارات الخلق إلى ميدان التحرير، وقوضت أركان نظام يمتلك قبضة أمنية حديدية. } وفي يوم جمعة الغضب اختفى وائل غنيم بعد أن اختطفه مجهولون يرتدون زياً مدنياً، فكافأته القوى الشبابية المشرفة على الثورة المصرية بتعيينه متحدثاً رسمياً باسمها، ثم أفرج عنه لاحقاً وظهر في برنامج (العاشرة مساء) على قناة دريم بصحبة المذيعة اللامعة منى الشاذلي، وتحدث عن ظروف اعتقاله وأهداف المظاهرات، ونفى امتلاكهم أجندة خارجية، وقال (أجندتنا الوحيدة حب مصر) واعتذر لكل من فقد عزيزاً خلال المظاهرات، ثم أجهش ببكاء مر على الهواء، وغادر الاستوديو فوراً. } حركت دموع غنيم الملايين، وأكسبت ثورة الشباب المصري قوةً رهيبة، وأضافت إليها ملايين المناصرين. } بادر غنيم بإنشاء صفحة (كلنا خالد سعيد) تضامناً مع الشاب المصري الذي اعتقل على خلفية تفجيرات كنيسة الإسكندرية وتعرض إلى تعذيب رهيب على أيدي رجال الشرطة أدى إلى وفاته، وظل مهندس الكمبيوتر الشاب يعمل على تطوير صفحته وتنشيط الدعوة متخفياً حتى بلغ عدد أعضائها أكثر من ستمائة ألف شخص، دون أن يفلح أمن النظام المصري في التعرف على هويته أو الوصول إليه إلا صبيحة يوم جمعة الغضب. } نجح شاب في مطلع الثلاثينات من عمره بعدة كبسات أزرار في تغيير حاضر مصر وقادمها، وأجبر مع رفاقه رأس الدولة على تقديم تنازلاتٍ كبيرة ومتتالية، بدأت بمحاولة تنفيس غضب المتظاهرين عبر إقالة المسئولين عن مواجهة المتظاهرين بالشدة، واستمرت بإقصاء مزوري الانتخابات ورؤوس الفساد وتجميد أرصدتهم ومنعهم من السفر، وتواصلت بإقصاء عدد من الوزراء وكبار المسئولين، وإعلان تنحي الرئيس عقب انتهاء مدة ولايته وتعيين نائب له بعد 30 عاما من التمنع، وانتهت بالحض على الحوار والشروع في تعديل الدستور لإرساء الحريات والقضاء على الفساد دون أن تقنع شباب مصر بالتحرك عن معقلهم في ميدان التحرير قيد أنملة! } وظل شعار (الشعب يريد تغيير النظام) وارداً من تونس الخضراء مرفوعاً يتردد بعنفٍ صباح ومساء. } قدح وائل شرارة الغضب في مطبخ النت، وأشعل النار عبر موقع فيس بوك الذي يضم أكثر من نصف مليار عضو، يتواصلون في ما بينهم، ويبوحون إلى بعضهم بهمومهم، ويتبادلون عبره خبراتهم وأسرارهم وأفراحهم وآلامهم. } وقد نشأ الموقع المذكور بواسطة شاب يافع يدعى مارك زوكربيرج (من مواليد 14 مايو 1984) وكانت عضويته قاصرة في البداية على طلبة كلية هارفارد (أقدم كليات جامعة هارفارد) وخلال الشهر الأول قام أكثر من نصف طلاب الكلية بالتسجيل في الموقع الذي فتح أبوابه أمام طلبة جامعات ستانفورد وكولومبيا ثم اتسع أكثر ليضم كليات مدينة بوسطن وجامعة آيفي ليج، ثم أصبح متاحًا لطلاب العديد من الجامعات في كندا وأمريكا وأصدر نسخة للمدارس الثانوية في 2005، وبعد ذلك أتاح الموقع فرصة الاشتراك لموظفي الشركات، ثم فتح أبوابه أمام الجميع ابتداءً من عمر ثلاثة عشر عامًا فما فوق واستوعب كل من يملك عنوان بريد إليكتروني صحيح، وفي أكتوبر من عام 2008 اتخذ مدينة دبلن الآيرلندية مقرًا له. } وتعرض موقع الفيس بوك للكثير من الانتقادات حيث سبق لجامعة نيو مكسيكو حظر الدخول إليه من أجهزة الكمبيوتر والشبكات الخاصة بالحرم الجامعي، ثم قامت حكومة أونتاريو بحظر دخول الموظفين إليه، وذكرت أنه لا يمت لمكان العمل بصلة مباشرة. } وبادرت دول بحظر الدخول إلى الموقع ومن بينها سوريا وإيران، وذكرت الحكومة السورية أن قرار الحظر جاء استنادًا إلى قيام البعض بالتحريض على شن هجمات ضد السلطات من خلال الموقع، كما ادعت أنها تخشى تسلل إسرائيل إلى الشبكات الاجتماعية في الدولة من خلاله، لكن السبب الحقيقي للحظر تمثل في استخدام الفيس بوك من قبل بعض السوريين لتوجيه انتقادات عنيفة إلى الحكومة. } وفي إيران، تم حظر استخدام الموقع بسبب مخاوف من استغلاله لتنظيم حركات معارضة. } وفي ليبيا تم إلقاء القبض على أحد مستخدمي الفيس بوك بمجرد دعوته إلى الثورة على النظام. } وفي السودان ترددت أنباء عن أن السلطة بصدد حجب الموقع، لكن ذلك لم يحدث، وقد دعا الرئيس البشير بنفسه إلى الاستفادة من الإنترنت للرد على المعارضين، وفي مصر حجبت الحكومة خدمة الإنترنت بكاملها لمنع شباب الثورة من التواصل عبرها، وفي مقدمتها فيس بوك، لكنها تراجعت بسرعة وأعادت الخدمة. } وغني عن القول أن محاولات حجب الخدمة عن مثل هذه المواقع لا تجدي فتيلاً، لأن برمجيات الكمبيوتر صارت قادرةً على تجاوز الموانع وكسر كل القيود بمنتهى السهولة. } دخل الفيس بوك القائمة السوداء مع بقية مواقع التواصل الإلكتروني بصفتها من مهددات العروش ومشعلي النيران بجوار الصولجان في العالم العربي تحديداً، لكن عالم اليوم بات حراً ومفتوحاً على بعضه، لا يقبل الموانع، ولا يخضع إلى رغبات الحكام وحدهم. } وللحرية ثمنها، وهي نور ونار، من أراد نورها فليصطلِ بنارها! } أو كما قال الزعيم الخالد إسماعيل الأزهري رحمة الله عليه.