{ لقد كتبت منذ أيام هنا ملاذاً تحت عنوان «ثورة مصر.. الجزيرة تنتصر»، فبعض القراء الذين يقرأون بتطرف وأجندة مسبقة لم يستوعبوا مقالي على وجه الدقة، وذلك لمّا أسندت دور البطولة في الثورات العربية التي اشتعلت والتي تحتدم في صدور الجماهير، إلى قناة الجزيرة. إن أية بداية منصفة حقيقية لهذه الثورات يجب أن تؤرّخ ببداية انطلاق بث قناة الجزيرة، واستعنت على توصيل هذه الفكرة بدراما مختزلة درجت على بثها الجزيرة نفسها من حين إلى آخر، وهي قصة رجل عربي أخذ (مرزبَّة) هائلة وطفق يضرب بها على صخرة جامدة، والصخرة لا تستجيب، ثم يترك المرزبَّة جانباً ويأتي بآلة (دربكين)، والدربكين هو الآخر يعجز أن يفعل شيئاً في تلك الصخرة الصمَّاء، وأخيراً يلجأ الرجل إلى مستودع ماء، ليترك ثقباً من المستودع يرسل قطرات على تلك الصخرة، وما لم تفعله المرزبَّة والدربكين تفعله قطرات الماء على مدى أكثر من عقد من البث المباشر والطرق غير المباشر. لم تكن تلك الصخرة إلا الأنظمة العربية، ولم تكن قطرات الماء الناعمة إلا أسطورة قناة الجزيرة، كما لو أن الجزيرة هي التي قررت إسقاط النظام العربي، وكما يقول شاعرنا الفيتوري: «والغافلُ مَن ظنَّ الأشياءَ هي الأشياء». فالذين ذهبت عقولهم في إجازة مفتوحة يقرون بأن الأشياء هي الأشياء كما يرونها أمامهم، الشعب المصري يخرج إلى ميدان التحرير ويسقط النظام. لكننا، نحن الذين ابتلينا أن نبحث في ما وراء الأشياء، رأينا أن الجزيرة هي التي أخرجت ثورة الشابي من متون الكتب لتزرعها في الساحات والميادين العربية: «إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدر.. ولا بُدَّ لليل أن ينجلي ولا بُدَّ للقيد أن ينكسر». الجزيرة هي التي كسرت تلك القيود التي فرضها الإعلام الرسمي العربي، الذي رسخ لثقافة «القائد الملهم»، وفي رواية «أمير البلاد المفدَّى»، وفي رواية أخرى «صاحب الجلالة» حفظه الله. الجزيرة هي التي فكفكت هذه القيود وزحزحتها بترسانتها الإعلامية الجامحة وبنَفَسها الطويل المثابر الذي لا يكل ولا يفتر، وهي تطالبنا أن نثابر معها «ابقوا معنا». وبالتأكيد هنالك فرق كبير بين «ابقوا معنا»، و«ابغوا معنا»، الأخيرة بالغين، بحيث يمكننا البقاء مع الجزيرة إلى أن تحطم كل عروش الطغاة والجبابرة. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا بقوة: هل نذهب معها إلى آخر الشوط؟ أنا هنا أعني المسافة بين «الحرية والتحرر»، والحرية أن نختار حكامنا بحر إرادتنا كما نختار قمصاننا من السوق، لكن في المقابل، إن التحرر هو ألاّ تجد في كل الأسواق الفكرية والفلسفية قميصاً يواري سوأتك، أن تتحرر من كل قيد وبالقانون ووفق الدستور، وهذه هي المسافة بين «البقاء والبغاء»، فنحن مستعدون أن نبقى مع الجزيرة حتى نسقط كل الأنظمة من المحيط إلى الخليج ونسترد كل الحريات، لكن التحرر على الطريقة الغربية فهذا ما يجيب أن نقاومه. { وأنا الذي أقول كل هذا، لا أملك في المساء إلا وأن أصفق لقناة الجزيرة، لأنها تؤدي هذه الأدوار وتضطلع بهذه السيناريوهات باحترافية مدهشة، فالجزيرة الآن قد كسبت مصداقية الشعوب العربية، وبهذا تمتلك مقدرة إخراجهم إلى الميادين العربية لصناعة الثورات، وهذه هي جزئية الحرية، ومن ثم ستسوقهم إلى جزاء التحرر، جزاء سمنار. { فكل الذي كتبته، وأكتبه الآن، هو الانتباه والتنبيه للفرق بين «الحرية والتحرر»، فنحن ننشد الحرية التي تؤهلنا إلى أن نقرر أشياءنا ومصائرنا بأيدينا، ولكننا في المقابل نقاوم ثقافة التحرر التي تجعل الآخرين يفصلون لنا كل أشيائنا، فيفترض أن لنا كأمة من الإرادة والمرجعيات ما يؤهلنا لتفصيل خياراتنا وقناعاتنا. { أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.