{ أتصور أن أيّة بداية منصفة لقراءة الثورة المصرية الباهظة، يجب أن تبدأ من هناك، أن تبدأ من العاصمة القطرية الدوحة، وتحديداً من مقر قناة الجزيرة.. «رئة الشعوب العربية»، الجزيرة القناة التي تقبع خلف معسكر السيلية الأمريكي الرهيب! { الرئيس المصري المنصرف، أو قُل المصروف، كان ذات صيف في زيارة إلى الدوحة، وحرص في تلك الزيارة أن يُسجل زيارة إلى قناة الجزيرة، وكانت الجزيرة تُدير أعمالها وتُطلق بثها من مقر متواضع هو بالكاد (هنقر صغير)، وذلك قبل أن تؤسس وترحل إلى مقرها الحالي الرحيب. فكان تعليق مبارك يومئذ «الآفة ما من كتير»!، لتدور الأيام دورتها وإذا بتلك الآفة الصغيرة (الكبيرة)، تتولى كِبَر مسؤولية الإطاحة بالرجل. بل أستطيع الزعم بأن المنتصر الأكبر في ثوراتنا العربية هي «قناة الجزيرة». فقناة الجزيرة هي التي تشكِّل المرحلة العربية الراهنة. فالثورة المصرية، على سبيل الثورات العربية المحتملة، هي نتاج لأكثر من عقد من البث المباشر وقبل المباشر، كانت الجزيرة تُدرك أنه سيأتي أُكله ولو بعد حين. الجزيرة هي التي عبّأت الثورة في وجدان الجماهير أولاً قبل أن تندلق تلك الأشجان في الميادين العربية، فالتحرير قد بدأ أولاً في الأفئدة والقلوب قبل أن يتدفق في ميدان التحرير. الجزيرة نفسها، وفي إحدى شعاراتها، تعرض مشهداً لرجل عربي يحمل (مرزبّة) ويضرب بها صخرة هائلة، ولكن الصخرة لا تستجيب، فيترك الرجل العربي تلك الآلة جانباً ويأتي بمستودع ماء هائل، ثم يترك ثقباً صغيراً في ذلك الإناء يسمح بنزول قطرات من الماء على الصخرة، وقطرات الماء على مدى عقد تُفلح في انشطار الصخرة، ولعمري إن الصخرة التي تتحطّم ليست هي إلا الأنظمة العربية، فلم تكن مصادفة أن يأمر السيد مبارك بين يدي الثورة «باقتلاع سلوك» قناة الجزيرة من (نايل سات)، وقد أفلح مبارك في قلع الجزيرة من باقة نايل سات، ولكنه في المقابل لم يكن بمقدوره أن يقتلع تأثيرات عقد من البث المباشر وغير المباشر!. «فالثورة ليست من كثير» كما الآفة التي هي الجزيرة، هكذا عادت الجزيرة منتصرة مع هدير جماهير الثورة المصرية. { وقبيل الإطاحة بساعات، ذكرت بعض التقارير الإعلامية، أن شيخاً كبيراً بدولة الإمارات العربية قد سافر إلى الدوحة بغرض نيْل تعهّد من حكومة الإمارة «بألا تُلاحق قناة الجزيرة الرئيس مبارك بعد خلعه»، على أن دولة الإمارات تنوي استضافة مبارك، الذي سيصبح بعد خلعه بمثابة «المال المسروق»!، وأنها لعمري الزيارة (الصاح إلى المكان الصاح)! فالأشياء العربية المعاصرة تُصنع كلها في الدوحة، والجزيرة لن يهدأ لها بال إلا أن تقدم مبارك ونظامه للمحاكمة، ليس هذا فحسب، بل الجزيرة ستُقدم كل الأنظمة العربية إلى المحاكمة، الأنظمة كلها من المحيط إلى الخليج ومن الخليج إلى المحيط، لهذا فمن أراد أن يؤرخ للثورات العربية، فعليه أن يبدأ من حيث بدأ انطلاق بث قناة الجزيرة، الرأي والرأي الآخر! { لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هنا، هل هنالك ثمّة مشروع أخلاقي وراء ثورات الحريات والتغيير التي تضطلع بها قناة الجزيرة؟! وسؤال آخر، هل هذه الثورات العربية ستشمل هذه الإمارات والممالك الخليجية بما فيها إمارة قطر نفسها؟!، فلئن كانت هنالك مجموعات وطواقم فاسدة ومستبدة، فعلى الأقل في حالة بعض الإمارات والممالك العربية هنالك أسرة واحدة تملك الشعب والسلطة والثورة والثروة، وهنالك بعض الشعوب العربية لم تمتلك بعد جنسية بلادها، فلا تزال تلك الشعوب ترزح تحت وطأة «مرحلة التابعية»، وهنالك كثير من الأسئلة المسكوت عنها. { لتقرأ المعادلة الجديدة، إذا قناة الجزيرة يوماً أرادت التغيير، فلابد أن تستجيب الأنظمة العربية، فثورة الشاعر التونسي الشابي، إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. هي نص جامد في ديواننا العربي منذ عقود، الجزيرة هي التي حرّكت هذا النص من متون الكتب إلى الميادين العربية. { مخرج.. قال السيد عمر سليمان في بيانه المتجهِّم الأخير، لقد قرّر السيد الرئيس حسني مبارك التنحي عن الحكم، والصحيح أن الجزيرة هي التي قررت أن يكون مبارك ليس رئيساً لمصر. .. إنها الجزيرة يا سادتي جاءت لتعلمكم الحرية والتحرُّر والديمقراطية!