{ مازلتُ أحتفي بذكرى المولد النبوي الشريف على طريقتي كل عام، رغم اختلاف ما يذهب إليه العلماء من جدل بيزنطي حول شرعية هذا الاحتفال من عدمها، ومازالت أصر على اصطحاب أطفالي إلى ميدان المولد في إحدى الليالي الهادئة بعيداً عن «الليلة الكبيرة» لأستمتع أكثر منهم بمشهد الأنوار المتلألئة والمحلات والدكاكين المتراصة في التصاق حميم والألوان الزاهية التي تخطف الأبصار. { إنني بذلك أستعيد بعض ذكرياتي العطرة، أتنهد بعمق وأسترجع طفولتي الضائعة، وتزداد قناعتي في كل عام بتبدل الحال والناس وتصاريف الأيام، فحتى طعم المولد لم يعد كما هو، بل حتى عروس المولد لم تعد كما كانت، فإلى جانب سعرها الباهظ الذي تنفر منه النفس أراها لم تعد تعتني بأناقتها مثلما كانت على أيامنا، ولا عادت تزهو بملابسها المزركشة الملتفة حولها بعناية، لقد أصبحت تُصنع على عجل ولأغراض تجارية مؤقتة. { الآن، كلما اشتريت لابنتي عروس المولد تمزقت أوراقها الملونة بعد دقائق قليلة فحسب، وحتى ابنتي لا تستطيع أن تتعامل معها بالقدسية المفروضة التي أرجوها منها، فتعمد ل(تقريمها) وأكلها بعد حين وأنا أتوجع حتى أكاد من فرط ألمي أبكي؛ فقد كانت عروس المولد خاصتي في مدبر الأيام تبقى محتفظة بكامل هيبتها وقدسيتها وأناقتها في مكان قصي بعيداً عن المتطفلين وهي تتمتع بخالص رعايتي وعنايتي حتى ينقضي العام ويحول الحول وتعاودنا ذكرى المولد من جديد إذا ما حالفها الحظ وظلت بمنأى عن هجمات جيوش النمل الحاقدة، دون أن أفكر مجرد تفكير في النيْل منها أو الفتك بها، وحتى إذا ما حدثتني نفسي الأمارة بالسوء بذلك تجدني أُسكت إلحاحها وتحريضها بقضمة صغيرة من قاعدة العروس العزيزة بحيث لا تظهر للعيان أو تفسد وقفتها المهيبة فوق رأس (الحافلة) في أغلب الأحيان، و(الحافلة) هذه - أيتها الأجيال الحديثة - هي دولاب خشبي بأبواب زجاجية لحفظ (العِدّة) الفخمة والقيمة التي كانت أمي تقوم بشرائها غالباً على شاكلة طقوم من البايركس لا نقوم باستعمالها أبداً وربما حتى الآن. وللمزيد من التوضيح فإن هذه (الحافلة) المهمة والمؤثرة التي تلعب دوراً كبيراً في تقييم المجتمع لصاحبة البيت أشبه ما تكون (باليُنِت) حالياً مع اختلاف الغرض وتقنية التصنيع وخامة الخشب المستخدم. { إذن، بذات القدر الذي اختلفت به ضروريات العصر ومحتويات منازلنا اليوم؛ اختلف به طعم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف واختلف طعم الحلوى وشكل عروس المولد. ومع احتفاظ ذكرى المولد بكافة أبعادها الصوفية المقدسة بأعماقنا إلا أنها لم تنجُ من محدثات العصر، فدخلت أنواع جديدة من الحلوى ذات الألوان المتعددة دون طعم، علماً بأن الأبحاث العلمية قد أثبت خطورة هذه الألوان المستخدمة في تصنيع حلوى المولد وهذا ما ليس نحن بصدده الآن، لأننا نتحدث عن الأبعاد المعنوية لمفهوم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ونتساءل: لماذا فقدنا حماسنا له؟! أو بالأصح لماذا لا أرى في أبنائي ذلك الحماس الذي كنا نستشعره عند حلول المولد النبوي الشريف؟ إنهم لا يكترثون للأمر، وربما لو لم أبادر لاصحابهم أو اقتراح الفكرة عليهم لظلوا غائبين عن المشهد وبعيدين عن الحدث لا يلحُّون ولا يطالبون بالذهاب إلى ميدان المولد! وحتى عندما نذهب لا أرى في عيونهم ذلك البريق الذي كان يعترينا ونحن نستشعر صوت (النوبة) في قلوبنا داوياً مربكاً للدم في عروقنا بحيث تهتز أبداننا وتتمايل من فرط التأثر والرهبة. لقد كان (للنوبة) أثراً عظيماً بأعماقنا، يضربها الضارب فتهتز الدنيا من حولنا وتنخلع قلوبنا من جوفها. أما الآن فإن أبنائي يتجولون في المولد بوعي ذاهل، تستوقفهم تلك الألعاب التجارية التي غزت ساحات المولد بكثرة حتى ذهبت بما تبقى من أهمية (الحصان والعروس والفيل والديك) وحتى السمسمية والحمُّصية والجوزية. وإنني لأشعر حقاً بالأسف لما آل إليه لحال لا سيما هذه الألعاب المكدسة التي تسترعي انتباه الأطفال وتذهب بهم بعيداً عن الهدف الأساسي من الحضور إلى باحة المولد النبوي الشريف لتعظيم الحدث والاستمتاع بالتفاصيل الروحية البسيطة التي ذهب جمالها مع محدثات العصر مما يدعو للحسرة والأسف. { تلويح: ورغم كل ذلك، تبقى ليلة المولد سر الليالي، وكل عام وأنتم بخير.