أشهر قليلة وينتهي مفعول اتفاقية نيفاشا للسلام، فالجنوب يتهيأ لأن يكوِّن دولته، والشمال بدوره يهيئ نفسه لاستقبال الحدث، وما بين هذا وذاك تظل القوى السياسية بالشمال في حالة ترقب وحراك، بالأخص أحزاب المعارضة في مواجهة أحزاب الحكومة، والعكس أيضاً، وفي هذا تتداخل اتجاهات القوى السياسية اختلافاً، تحالفاً واستقطابا. وسط هذا الخضم يُجمع الكل على ضرورة الحوار الوطني، بعيداً عن أجواء التوتر والشحن العقدي أو الطائفي، حوار يمكِّن البلاد من العبور بنجاح ويعزز من قيمة الدفاع عن المصالح الحيوية للدولة السودانية. إذن كل ذلك لن يتأتى إلا بسلوك سياسي راشد ومسؤول من كل القوى السياسية حاكمة ومعارضة، فهناك حوار مطلوب وعاجل يطال العمل السياسي والتنظيم القانوني والتشريعي والدستوري للمرحلة المقبلة حتى يشارك الجميع في هيكلة وصياغة الدولة الشمالية القادمة. بهذه المقدمة يجيئ حوارنا، الذي يُنشر على حلقتين، مع الأستاذ فتحي شيلا الناطق الرسمي باسم المؤتمر الوطني، الذي توجهنا إليه بعدد من الأسئلة أجاب عليها بشجاعة، حيث بدأنا هذه الحلقة من الحوار بالسؤال: { في ظل ما هو قادم، ما هي المطلوبات العاجلة لتكوين الدولة؟ - حقيقةً نحن أمام مرحلة جديدة، ذلك بأن هناك سودان يختلف شكلاً ومضموناً عن ذلك الذي ورثناه؛ حدود جغرافية مختلفة ومنهج سياسي مختلف وكذلك الملفات التي كانت موجودة لم تعد هي ذات الملفات مثل قضية الجنوب، وبالتالي نحن ننظر في المؤتمر الوطني إلى هذا الواقع ونخاطب المجتمع بهذا الشكل بعد أن انفصل الجنوب، وهذا يعني أننا نريد أن نؤسس لمرحلة لديها ظروف تقتضي التوافق والانسجام حول القضايا الرئيسية. السودان أمضى فترات طويلة جداً نتيجة لعدم الاستقرار السياسي من نظام ديمقراطي إلى نظام شمولي، وكل هذه كانت معوقات تحول دون الاستقرار، الآن وقد انجلى الأمر بوضوح نريد أن نؤسس لسودان آمن ومستقر ومتطور، تشارك فيه القوى السياسية السودانية كلها وبصورة أوضح يشارك فيه كل الشعب السوداني، وهو أمر عجزت عنه القوى السياسية في السابق، ليس لعجز في مقدراتها، ولكن نتيجة لطبيعة المشاكل المعقدة وعدم استقرار شكل الحكم. { تارةً تتحدثون عن الحوار وتارةً تقولون المشاركة في الحكومة العريضة، هل ثمَّة توضيح هنا؟ - نحن عندما نقول الحوار يقفز إلى ذهن البعض أن هذا الحوار له طريق واحد هو طريق المشاركة في الحكومة، ونحن نقول إن الحوار الذي نريده هو الحوار المفضي إلى مشاركة الشعب السوداني بقواه الحية والمؤثرة والفاعلة، مستفيدين من هذه التجارب إلى دستور، كل الآراء مطروحة في هذا الأمر، وبالتالي ليس لدينا قالب أو أوامر جاهزة لفرض هذه الرؤى على الشعب السوداني، ولكن لدينا رؤية حول هذا الدستور، وبالتالي نتوقع أن تطرح القوى السياسية الأخرى رؤيتها وكل شيء قابل للاتفاق إذا ما كانت وجهتنا هي ضرورة استدامة السلام الذي تحقق واستدامة النظام الديمقراطي وتحول ديمقراطي سلس وفقاً للدستور. لذلك فالدعوة أولاً هي للمشاركة في صياغة هذا الدستور. { ما هي الجهة المناط بها النظر في الدستور وإجازته؟ - صحيح بعض الناس يتخوفون أين يُجاز هذا الدستور؟ ونقول هنا من الطبيعي أن يُعرض هذا الدستور على برلمان، فهنالك برلمان الآن منتخب وليس بالضرورة أن يكون التمثيل في هذا البرلمان من كل القوى السياسية ولكن بالضرورة ألاّ نصل إلى هذا البرلمان لعرض هذا الدستور إلا بعد الاتفاق، وهذا أمر فيه سابقة وهذه السابقة ارتكزت على تجربة المفوضية القومية لمراجعة الدستور، فهذه المفوضية هي تجربة ناجحة شاركت فيها كل هذه القوى السياسية، تراضى الناس حول مفردات ونصوص هذه المفوضية ومن ثم عُرض على برلمان شبيه بهذا البرلمان، كان فيه المؤتمر الوطني يشكل الغالبية ولكن الأصل هو الاتفاق داخل هذه الآلية. { إذن، هل يكون الطريق القادم هو عبر المفوضية؟ - نعم الآن نحن نطرح استمرار هذه المفوضية بشكلها وبإضافات تجرى عليها، خاصةً بعد خروج الحركة الشعبية، فهذا مجرد مقترح، وذلك لتكون آلية من الآليات التي يمكن أن نتكئ عليها لصياغة الدستور. فهذا كما قلت مقترح ومجرب وفيه مشاركة كل القوى السياسية التي كانت ممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي وهذا المقترح قابل للأخذ والرد، وبالتالي فإن موافقة القوى السياسية للإبقاء على هذه المفوضية هو عامل أساسي لنجاح هذه التجربة. { ماذا لو رفضت الفكرة وحدث خلاف هناك؟ - إذا لم نتفق مع القوى السياسية على استمرارية هذه المفوضية بتلك الصورة، نقبل أن يكون هناك طرح آخر هو تكوين لجنة للدستور تشارك فيها كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنخبة من المفكرين والأساتذة. { هل سيتحلَّى المؤتمر الوطني بالصبر والمرونة الكافية في أي طرح قادم؟ - حقيقة مرونة المؤتمر الوطني للجدية في الخروج من أزمة عدم وجود دستور دائم يدعونا أن نكون مرنين حتى في الاتفاق على الآلية التي تصوغ هذا الدستور. { قلتم ودعوتم للمشاركة في الحكومة ذات القاعدة العريضة، ماذا حول هذا الأمر؟ - أي حديث عن المشاركة في الحكومة هو حديث سابق لأوانه، فنحن الآن نريد أن نتفق حول القضايا القومية والوطنية التي تؤسس لنظام ديمقراطي وتؤدي إلى طريق واحد هو الدستور الدائم لقيام انتخابات بعد إقرار هذا الدستور وبموجب هذا الدستور ليختار الشعب بعد ذلك من يحكمه. { ثم ماذا عن هيكلة الدولة إذن؟ - في ما يتعلق بهيكل الدولة فالآن هناك نظام رئاسي وهذه رغبة ومقترحات المؤتمر الوطني، وهذا لا يعني أنه ليست للقوى السياسية الأخرى خيارات أخرى مثل النظام الرئاسي البرلماني أو النظام الرئاسي الذي يشبه النظام الرئاسي الموجود في فرنسا. فهيكل الدولة وشكلها هو أيضاً قضية مطروحة للنقاش، وبالتالي تصبح الآلية الثانية هي لهيكل الدولة لتكون الآلية الثالثة هي للحكم الفيدرالي. فهذه ثلاث قضايا قومية والاتفاق حولها ليس بالعسير إذا أردنا القفز بالسودان إلى مرحلة آمنة ومستقرة. ففي الحكم الفيدرالي بدأنا بالحكم الإقليمي ومن ثم الآن الحكم الفيدرالي. فالمؤتمر الوطني لديه تجربة وهذه التجربة خاضعة للتقييم والتقويم والتعديل إذا لزم الأمر. { الدعوة للمشاركة في الحكم ما هي حدودها وخيالها وهل هي من منطلق الترضيات فقط؟ - نحن نتحدث عن سودان في وضع خاص في ظروف مشكلة الجنوب وعدم الاتفاق حول آلية الحكم وشكله ودستوره مما أدى إلى هذا التمزق الذي حدث خلال ال(55) سنة، فالآن نحن نفكر كما قلت لسودان بحدود جغرافية وفي ظل واقع مختلف يختفي فيه ملف اسمه ملف الجنوب، لذلك نحن نؤسس لهذا الوضع الجديد لنطوي صفحة الماضي بكل تجارب الأنظمة التي مرت لنؤسس للاستقرار، ثم بعد ذلك نأتي للحديث الذي يقفز على ذلك. وصحيح في ما يتعلق بالمشاركة في الحكم نحن طرحنا استعدادنا لمشاركة القوى السياسية كافة في الحكم ولكنها لا تأتي في الأولوية الأولى؛ لأن الأولوية كما قلت هي للقضايا الوطنية، وهذا ما نحن بصدده الآن على الأقل مع الحزبين؛ الأمة القومي بقيادة الإمام الصادق المهدي والاتحادي الديمقراطي بقيادة مولانا محمد عثمان الميرغني، بالإضافة إلى القوى السياسية المكونة للحكومة الآن. { لماذا تستهدفون حزبين فقط في هذا الحوار؟ - هذان الحزبان الآن يجري معهما حوار، ولقد بدأ الحوار فعلاً، فمع حزب الأمة قطعنا شوطاً ونحن هنا حقيقة نستنكر الذين يريدون أن يشوِّهوا الأهداف؛ فبعض أجهزة الإعلام تناولت الموضوع بحيث أشاعت أننا تحاورنا مع الصادق المهدي لأجل أن يكون رئيساً للوزراء، فهذه قضايا لم تعد تشغل بالنا الآن، ولذلك فإن أي حديث يبدو باعتبار أنه صادر من المؤتمر الوطني حول مشاركته بأي شكل من الأشكال فهذا نعتبره حديثاً مدسوساً من جهات تريد أن تقوِّض الهدف الأساسي، فلأول مرة نحن نجتمع مع الأحزاب كمؤتمر وطني ونخرج بمذكرات مكتوبة، وبالتالي فرؤيتنا حول هذه القضايا سُلّمت لحزب الأمة مكتوبة، ورؤية حزب الأمة حول هذه القضايا أيضاً تسلمناها مكتوبة، فنحن نجري حواراً جاداً ومسؤولاً حول هذه الترتيبات الخاصة بالقضايا الجوهرية التي نفكر فيها. { ماذا عن النصاب البرلماني إذن بعد خروج أعضاء الحركة الشعبية منه؟ - هذا البرلمان مكوَّن من (350) عضواً منهم (99) عضواً من الجنوب، فالنصاب المتبقي هو النصاب الذي يسمح بإجازة الدستور أو بتعديل الدستور أو بإقرار القوانين، وبالتالي ليس هناك خلاف، بالإضافة إلى أن النصاب يؤخذ من هذا العدد وليس من العدد السابق وهذا منصوص عليه أيضاً في هذا الدستور، فالمشرِّع للدستور انتبه إلى أنه قد تؤدي نتيجة الاستفتاء إلى الانفصال، وفي هذه الحالة أجاب على هذا الاستفسار مسبقاً، فانفصال الجنوب لا يعني نهاية هذا البرلمان ولا يؤثر على شرعيته، لذلك فالدستور أمَّن على البرلمان المتبقى باعتبار أنه يصبح برلماناً شرعياً ويستمر إلى نهاية دورته، هذه الدورة المحددة بالدستور بخمسة أعوام. والآن نقول إننا في نهاية العام الأول، والمتبقي عدد أربعة أعوام، فالدستور نص أن المتبقى بعد حذف نصيب الجنوب فهذه هي شرعية البرلمان. { هل التاريخ يمكن أن يحمِّل مسؤولية الانفصال لحزب واحد، ألا تتخوفون من ذلك؟ - لم يقسِّم المؤتمر الوطني السودان، بل أنه وضع حداً لنزيف استمر (55) عاماً، فالمطالبة بالانفصال لم تنحصر في عهد المؤتمر الوطني، بل كانت في الأعوام 1947م - 1955م، إضافةً لشعارات الجنوبيين التي تنادي بالانفصال، والحروب التي استمرت (55) عاماً ولم تتوقف إلا في فترة جعفر نميري باتفاقية أديس أبابا في العام 1972م إلى العام 1982م. وبالتالي فلا يمكن لأحد أن يوجِّه مسؤولية الانفصال للمؤتمر الوطني. { ما مستقبل جنوبيي المؤتمر الوطني في المرحلة المقبلة؟ - ما في جنوبي مؤتمر وطني ولا جنوبي في الحركة ولا اتحادي ديمقراطي؛ فالجنوب الجغرافي يصبح جنوباً جغرافياً وسياسياً، أي جنوبي يظل يحمل جنسية دولة الجنوب وبالتالي بقاؤه في المؤتمر الوطني أو الاتحادي الديمقراطي أو في أي حزب آخر في الشمال فهذا أمر لا يتفق مع القوانين ولا مع الدساتير ولا مع سيادة الدولة، وبالتالي بنفس القدر جنوبيو المؤتمر الوطني والأحزاب الأخرى في الشمال عليهم توفيق أوضاعهم داخل الخريطة الجغرافية في دولة الجنوب وليس في الشمال.