في المرحلة الثانوية نشأت علاقة لي بالشعر وكانت البدايات مشجعة ولكني هجرته إلا من بعض المحاولات القليلة جداً. ولعل شعر المرحلة الثانوية هو الأكثر سلاسة والأفضل صنعة والأميز عند كثير من الشعراء من بين كافة أشعارهم وهذا يقودنا إلى حالة نقدية تفاضل بين الموهبة والخبرة مازال كثير من النقاد يترددون في المفاضلة فتجدهم ينقسمون ما بين هذه وتلك وتجد بعضهم يرفضون فكرة المفاضلة تماماً. في المرحلة الثانوية كتبتُ نصاً ضاعت بعض أبياته، كتبته راثياً ابن خالي الراحل المقيم الطيب المقدم حسن (أريل) - رحمه الله رحمة واسعة - وقد مات الشاب إثر حادث حركة قريباً من منطقة سنكات وقُبر هناك، كانت الفكرة الأساسية التي حركت النص في دواخلي هي ضخامة الحزن الذي يسكن خالي (والد المرحوم) وقد مضت أربعون يوماً والحزن لم ينقص منه شيئاً فكتبت: سنقتسم الجرح أبي والجرح كبير جداً.. الموت مصير حتماً لكن الموت نال من نال الحبا.. أيام معه لن أنسى ودموعي على خدي ترسى.. باكية حباً مات قبل أن ينشأ.. رحلت بدون وداع هذا منه ما أشقى.. ولكن ذكراك حياة أخرى وذكراك أجمل ما كنت.. سنقتسم الجرح أبي والجرح دم ينزف.. وبكائي داخل صدري لن يتوقف.. وقيثارتي تقول لغة الحزن وتعزف.. الموت خطير صار يخطف.. يخطف أعظم حب لن يستأنف.. أه يا موت منك لماذا تخطف.. لماذا تعذبنى.. إني لا أعرف. هرب الشعر ولم تعد الكلمات الشعرية تداوي حكاياتي بالرغم من احتفاظي بحلاوة الإنصات إليه وتخيُّله والإمساك بكل التفاصيل التي تزدحم عند منصة الإلقاء وحولها فتجدني ألتقط من الدلالات والمغازي التي قد يحتملها النص الشعري ولا يحتملها كاتب النص نفسه وحاله كحال صاحب العريضة التي اكتشف فيها الرجل أنه مظلوم أكثر مما كان يتصوّر فبكى. وموسيقى الشعر وجرسه قد تحملان شاعراً على وقع الكلمات دون أن ينتبه لدلالاتها وإن قفزت بنصه إلى أعلى عتبات الشعر وهذا ما يكتشفه ويستبينه النقاد وهم يتعمقون في تلك النصوص الشعرية فينبهر الشعراء بنصوصهم ويسرّون ذلك وربما يدعي البعض أنه كان يقصد ذلك تحديداً. ولكن عموماً فإن دور الناقد الأدبي مكمل لدور الشاعر وأنا لست بشاعر ولكني أستمع بشكل جيد ولا ناقد ولكني استمتع بما يكتبون وكثيراً ما أستعين بهم لفهم ما يستعصي علي. النص الذي كتبته راثياً يحفظه ابني الصغير (يسار) وتحفظه ابنتي (رفاه) وهما يحاولان باستمرار كتابة الشعر ولهما محاولات جيدة يمكن تطويرها. وأذكر أن (يسار) وبعد عودته من مدرسة العمارات النموذجية وهو في الصف الرابع ذكر لي أنه اليوم شارك في الطابور الصباحي وألقى هذا النص الشعري وأن أساتذته أثنوا عليه وحفزوه بجنيهين صادفا أنه في ذلك اليوم نسي مصروفه اليومي مما جعله يستخدم الحافز في شراء الفطور وأنه لولا ذلك لأمسك عن الفطور حتى ميقات عودته إلى المنزل، فمازحته قائلاً: (خلاص تاني ما بديك قروش كل يوم الصباح أديك قصيدة) ضحك وانصرف إلى حاله. ولكني بدأت أفكر في العودة إلى الشعر وبدأت أقرأ وأحفظ وأستدعي حلاوته وحسه وخياله وأرسم علاقة جديدة تربطني بالكلمات هذا المكوّن الفريد والجميل.