منذ أمد ليس بالقريب، يعود تاريخه لما بعد الحروب العالمية، وحركة العالم ومسيرته تدار مركزياً، حيث كان السعي دؤوباً ليستجمع في منظومة واحدة ومتحدة في المرجعيات وصناعة الحاضر والمستقبليات. كان فيما سبق أنظمة ذات أيديولوجيات مختلفة، ولكنها تحكم بنظم إقطاعية أو ملوكية أو جبرية، فصنعت لها الآلة المحركة فكرة الشعوبية بغرض التشتيت والتفتيت عبر التمرد والثورات والانقلابات العسكرية، ولما تحقق ما أرادوا، إلا من بقايا اقتضتها ضرورات الحال والزمان، قلبوا الطاولة مرة أخرى على الشعوبية نفسها بإثارة القوميات والأيدولوجيات، ولكن بعصابات غير منتظمة ومتسقة فكرياً ومؤسساتياً، عبر هذا الزمان الذي امتد لعقود، وعلى نار هادئة وبتمهل تطبخ وتصنع فيه أفكار ومؤسسات ذات طابع كوني تغطي كافة جوانب النشاط الإنساني وحاجياته، ابتداء من التربية والثقافة والعلوم (اليونسيكو)، ومروراً بالقانون الدولي (المنظمة العالمية لحقوق الإنسان)، والقضاء الدولي (محكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية)، والشرطة الدولية (الانتربول)، والجيش الدولي (مجلس الأمن الدولي)، والاقتصاد الدولي (البنك الدولي - وصندوق النقد الدولي)، كذا المنظمات والوكالات الدولية في مجالات الزراعة والصناعة والاتصالات والتجارة والسياحة والعمل والصحة والبيئة والطاقة.. والقائمة تطول وتطوق كل المجالات، وتحاصر المجتمعات والحكومات بنظم لا فكاك لهم منها عاجلاً أم آجلاً، تتشكل في منظومة غاية في الدقة والارتباط والمرجعيات. إنها توطئة لنقرأ من خلالها ما يجري على ساحتنا العربية الآن من رياح وأعاصير عاتية تقتلع الأنظمة اقتلاعاً عجولاً.. ليس هذا الحدث مجرد شعوب غاضبة فحسب، فالغضب كامن منذ أمد، ولكن دقت ساعة الصفر حسب ما هو مخطط له، ولم يعد الأمر سراً، فقد أعلن الخطة صراحة الرئيس السابق بوش الابن، حين قال: تغيير النظام في العراق يعني إعادة ترتيب المنطقة، ويبشر بأن شرقاً أوسط جديداً قادم لا محالة، وأن القيم الأمريكية والغربية لا بد أن تسود المنطقة، وكان يقصد (الحريات، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية السوق)، ووصف الأنظمة بالمنطقة، خاصة العربية منها، بأنها رجعية وفاسدة. باحتلال العراق ستسقط (ولاية الفقيه) التي تربط المذهب الشيعي بالدولة، أي إنشاء علاقة دينية بالدولة، واستبدال نهج الخميني بمنهج السيستاني الذي يدعو إلى تأسيس المذهب الشيعي الإثني عشري على فكرة المهدوية المتنظرة، وإلغاء نظرية التجديد في الفكر الشيعي، والنتيجة إسقاط النظام في إيران وكل التنظيمات التي تنتهج نهجه في لبنان والبحرين والسعودية والكويت، وحتى في العراق، خاصة وأن العراق منبت الفكرة وبه المرجعيات والمزارات. وبسقوط النظام الجمهوري في مصر واستبداله بآخر ديمقراطي، يعني أن كل الأنظمة الجمهورية التي بنيت يومئذ على مبدأ قومية عبد الناصر العربية يجب أن تتغير، وكذلك تحويل كل الأنظمة الملكية والأميرية المطلقة وشبه المطلقة إلى أنظمة دستورية، ومن ثم تعميم النموذج التركي على كافة بلدان المنطقة في مدى زمني قصير لا يتجاوز نهاية عام 2012م حسب ما هو مخطط له. هذا على المدي القصير، وأما المتوسط والأقصى فالخطة أن تتحول المنطقة بكاملها إلى النموذج الغربي، ومن ثم تتكتل مجموعات أمريكا والاتحاد الأوربي والشرق الأوسط في كتلة واحدة تسمى (أرض النيتو) تمثل ثقلاً سكانياً يتجاوز المليار نسمة، يمكن به مواجهة الصين لتستجيب للنظام الديمقراطي وتتخلى عن الحزب الواحد، وإخضاع قومية الهند المتعصبة إلى مجتمع متحلل وحديث، وحينها ستنهار تلقائياً كوريا الشمالية آخر بقايا الماركسية. لا أدري كم هو المدى الزمني الذي تتم بموجبه إخضاع كل دول العالم لهذا النظام الكوني الذي تمثل الآن أوربا نموذجه في اختيار الوحدة الأوربية في برلمان موحد وعملة موحدة وإلغاء للحدود وهكذا.. هذا هو الاتجاه والمسار، فمن يرى غير ذلك فإنما يمنِّي نفسه بأحلام لا علاقة لها بالواقع ومقطوعة عن التاريخ، ولن تكون إلا مغالطة لا طائل تحتها من فائدة. نحن أمة تنشد النهضة والتجديد، وحالنا يغني عن سؤالنا، جمود فكري، تعصب مذهبي وطائفي، تخلف تكنولوجي، نزاعات باردة وحارة، تشتت وعداوات دون مسوغات، جهل بحقائق الشرع ومقاصده، غياب نموذج الدولة الراشدة، تفكك الدويلات رغم المنظمات والمؤسسات الإقليمية والعالمية الموغلة في الهشاشة، لأنها بلا طعم ولا لون ولا رائحة، تابعة لا حول لها ولا قوة. لكن توجد في هذه العتمة كوة تحكيها مقاصد الشريعة وتطبيقات السيرة النبوية والعهد الراشدي، وفي المنهج سعة تحكي أن الجمود على تطبيقات ثابتة للأحكام أمر غير وارد في الشرع، لأن الأمر محكوم بتقلبات الزمان والمكان والأحوال، ولذلك تحدثنا سيرة المسلمين عن مواقف متضادة ومتناقضة حسب مقتضى الحال: { يكسر الصنم.. وآخر يطوف بالبيت وهو مليء بالأصنام ويرفع الصنم إن وقع. { يعلن إسلامه لما كثر عدد المسلمين ولديهم قدرة الدفاع عن النفس، بينما آخر يعلن الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولما يحادث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يعذره بل يأمره بأن (إذا عادوا فعد). { يرسل أحد الخلفاء إلى الأباطرة بأن (اسلم تسلم).. وقبلها لما مُنع النبي صلى الله عليه وسلم من كتابة (هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله) وردوه بقولهم: لو كنا نؤمن بأنك رسول لاتبعناك، فيضطر إلى حذفها ويكتب: (هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله). { يمتنع المسلم من شرب الخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير تحريماً، ويتناولها جميعاً أو أشتاتاً لسد الرمق وخشية الهلاك ولربما وجب ذلك. { تطبق الشريعة بالمدينة بكامل فصولها شرعة وقضاء، هجرة وجهاداً، بينما النجاشي حينئذ كان ملكاً مسلماً لم يهاجر ولم يجاهد ولم يحكم بحكم الملك، بل لم يُعرف أنه صلى لله ركعة - كما ثبتت الروايات بشأنه - ومع ذلك لما مات مؤمناً شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وصلى عليه والصحابة صلاة الغائب بالمدينة. والأمثلة في هذا المجال تطول. والآن تدفعنا الأحداث وتداعياتها دفعاً لإحداث نهضة شاملة تنتشل الأمة من القاع إلى بر الأمان، ولكن ذلك لن يتم إلا بإنتاج علمي يتجاوز التسلية بالمناقب وتقديس المقال على الصحيح المنقول، ويعمل الاجتهاد المتعمق الذي يسبر أغوار كافة التعقيدات التي نواجه. ارتكاز الاجتهاد الحر على صحيح النقل وصريح العقل أمر لازم، والأجواء مهيأة لذلك أكثر من ذي قبل، حيث الحرية الآن متوافرة بنسب عالية، وعهد الإرهاب الفكري قد ولى، وحركة التطور وتياراتها أقوى من كل جمود، هذا أو أن تكون الأمة غثاء للسيول الجارفة. تدفع ضرورات الظرف الزماني والمكاني الأخذ بالأصل الأول المستمد من الوحي مباشرة وتأويلاته المبسطة، واحترام اتجاهات مدلولات ألفاظ اللغة العربية، وتأويلاتها وفق ما تعارف أو اختلف عليه الناطقون بها آنئذ، مع الأخذ في الاعتبار السيرة النبوية الأولى بتطبيقاتها لمنطوقات الوحي أو التصرفات الاستثنائية التي أجلتها تقلبات الأحوال قوة وضعفاً، والتي تعتبر مناط التكليف وشروطاً للتنزيل العملي وفق القدرة البشرية - بلا حرج - والمقاصد الكلية التي بنيت عليها الأحكام الشرعية، وسنن الله في التشريع في عصر تطاول بنا فيه البعد الزماني مقروناً بحالة انقطاع وعدم وصل بالعهد الذهبي الأول من حيث العقد والسلسة الفكرية والاجتهاد المستقل إلا من شذرات لا تمثل نموذجاً وإنما اجتهادات فردية، لكنها تعين على القراءة والرؤيا الهادية لحاضرنا والمستقبل. وفي حالة النقص لا تكون المرجعية غالباً في الأحكام الأصلية وإنما في الفتاوي الانتقالية التي تتغير بتغير الزمان والمكان. فلا علينا إذن إلا أن نزود أبناء الأمة بالإيمان والبصيرة، وندفع بهم ذرافات ووحداناً في هذا العالم الذي يمور ويتخلق ويمشي الهوينا غير آبه ولا متعجل، فكل شيء يخضع للدراسات المتأنية والمتعمقة والواقعية. وعلى القادة أن يزرعوا الثقة في أبناء الأمة والدفع بهم للمخالطة والمدافعة والمفاعلة، إذ لا مناص، وأن أخطر ما يدمر الأمة أن يبذر قادتها التشكيك وعدم الثقة في بنيها فإن (الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم). وتلك الأيام نداولها بين الناس والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. { وزير الدولة للآثار والسياحة والحياة البريَّة