{ لا أحد ينكر أن بلادنا تمر بمرحلة مفصلية من عمرها بسبب اتفاقية السلام وما أضفت إليه من تأييد نسبة كبيرة – غير متوقعة- من الجنوبيين لخيار الانفصال من جهة، ولتداعيات الأحداث التي تنتظم المنطقة العربية المجاورة من جهة أخرى. فالأحداث الكبيرة تتطلب وعياً أكبر وقرارات جريئة ومواقف شجاعة تعكس القدرة على التعاطي مع المستجدات مهما كبرت وكثرت. { رغم اعتراضنا على تصريحات كثير من الإعلاميين وبعض المسؤولين بالدولة والحزب الأكبر في الحكم التي تتحدث دوما عن انفصال الجنوب باعتباره قد وقع فعلا – وهو أمر بالتأكيد غير صحيح- إلا أننا ننطلق – كما هو غالبا حال من يصرح بالانفصال- من نتائج الاستفتاء التي جاءت لصالح الانفصال وبالتالي نتوقع أن تعلن الحركة في التاسع من يوليو تأسيس دولة جديدة في جنوب السودان. هذا الحدث لا يمكن أن يمر مرور الكرام دون أن يؤثر على واقع ومستقبل البلاد. اتفاقية السلام الشامل نصت على قيام انتخابات رئاسية وتشريعية قبل تنظيم استفتاء جنوب السودان للتأكيد على أهمية وجود حكومة منتخبة من قبل الشعب في شمال وجنوب البلاد يكون لها السند الشعبي والدستوري والقانوني المؤهل لتنفيذ ما تبقى من بنود الاتفاقية التي من أهمها إجراء الاستفتاء والالتزام بما يسفر عنه من نتائج إذا تطابق إجراؤه مع ما هو منصوص عليه في الاتفاقية. ولذا لا يمكن لاتفاقية ما أن تحمل تضادا بمثل ما يدعي البعض من أن إعلان نتائج الاستفتاء يعني ضمنا انتهاء شرعية الحكومة ما يعني وجود فراغ دستوري يجب أن يُملأ بتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، وهذا تحديدا ما سعت الاتفاقية لتفاديه بتقديم إجراء الانتخابات على تنظيم الاستفتاء. وأعتقد أن القوى السياسية المعارضة قد اقتنعت بهذا المبدأ ولم تعد تتحدث عنه بعد. { قلنا في مستهل هذا المقال إن ردود الأفعال تأتي – من حيث الحجم - على قدر الأفعال، ومن حيث نوعية الاستجابة على قدر وعي متخذي القرار، ومن حيث قدرة ردود الأفعال على المعالجة على قدر الحكمة التي يتمتع بها صانعوه. قلنا في مقال سابق إن التغيير هو سُنة الله في الكون، وقلنا إن التغيير الذي يجري من حولنا نعتقد أن فيه خيرا للسودان، شعبا وحكومة، من حيث النوع والتوقيت الذي تلازم مع مرور البلاد بهذه المرحلة المفصلية من عمرها. ولكن حتى نستطيع أن نستفيد من رياح التغيير التي تهب هنا وهناك ونوجهها في الاتجاه الذي فيه خيرنا على المستويين الداخلي والخارجي، يجب أن تكون ردة الفعل والاستجابة بقدر الحدث وبحجم متطلبات المرحلة. { فتح باب المشاركة السياسية يسفر قطعا عن مناخ إيجابي ويولد تأييدا جماهريا كبيرا تمتزج فيه عضوية الأحزاب المختلفة المشاركة، ويوفر بالتالي للحكومة قاعدة شعبية عريضة تكون أساسا قويا وجسرا متينا لعبور المرحلة المفصلية التي تمر بها البلاد. وهذه المشاركة يجب أن تكون مفتوحة على الجميع، لأننا نثق في وفاء وولاء الجميع للوطن وحماية مصالحه والعمل على الرقي بإنسانه، إلا من أبى. وحتى من أبى نترك له الباب مواربا للمشاركة بشكل أو بآخر متى ما استوفى شروطها. { نقول ذلك ونحن نعلم علم اليقين أن من بين أحزابنا من يفتقد لأبسط مبادئ الديمقرطية كونها لم تعقد مؤتمرات عامة ولم تنتخب قياداتها وبالتالي تفتقد للسند الشعبي الذي يريد الإحساس بالمشاركة في صنع القرار من خلال المشاركة بانتخاب قياداته وممثليه. ونعلم كما يعلم الجميع أن هناك أحزابا لا تعكس رأي الشعب ولا حتى رأي أعضائها، بل تعكس فقط ظل سيدها وصدى كلماته الرنانة، وهي – هذه الأحزاب- تعتبر غير مؤهلة للمرحلة لأن فاقد الشيء لا يعطيه (كيف لمن حرم أعضاء حزبه، المتفقين معه ليس فقط في مجمل القضايا بل حتى في التفاصيل، من المشاركة - على مستوى مؤسسات الحزب- التي تمثل أبسط قواعد لعبة الديمقراطية أن يدعي أنه يطالب بها لعامة الشعب الذي ليس بالضرورة يكون متفقاً معه في كل ما يقول، وذلك على مستوى مؤسسات الدولة)! هذا تضاد وتعارض لا يفوت على عاقل. ولكننا نأمل أن تستفيد هذه الأحزاب من هذه التجربة وتعدل في برامجها وسياساتها ومؤسساتها بما يتوافق مع متطلبات المرحلة وبما يؤهلها للدفاع عن قضايا المواطن والوطن في مستقبل عمرها. { ولكننا بالرغم من ذلك ندعو الحكومة وبشدة لضرورة فتح باب المشاركة للأحزاب والأفراد من ذوي الكفاءة والمقدرة، بل أيضا فتح باب المشاركة لكثير من القيادات الشابة التي تعج بها مؤسسة حزب المؤتمر الوطني، وللمخلصين من أبناء بلادي ممن يتوقون للبذل والعطاء وهم كُثر داخل وخارج السودان. ولنا في ذلك في رسول الله قدوة وأُسوة حسنة يجب اتباعها. { قلنا بالأمس إن الشعب على ثقة أن بجعبة المؤتمر الوطني أكثر مما أعطى حتى اليوم، وأن بمؤسسات الحزب أضعاف أضعاف الوجوه القادرة المقتدرة الموثوق بأدائها غير التي تعودنا واعتدنا عليها، لذا تجدنا نحن المواطنين – وحق لنا- متشوقين دوما للمزيد وللتجديد بحريتنا وبإرادتنا دون – وقبل- أن يملى علينا من أية جهة. وحق للشعب كذلك أن ينتظر من الحزب الذي قاد ثورة لم تغير معالم البلد فقط بل غيرت كذلك معالم السياسات الإقليمية والدولية، أن تكون له القابلية على التغيير الذاتي، والقدرة على مواكبة التطورات المتسارعة من حولة، والأهلية لفتح باب المشاركة العريضة للأحزاب والكوادر الوطنية المخلصة، والتجربة التي تؤهله لوضع برنامج وطني يتضمن كل القضايا المهمة والطارئة للمواطن والوطن لتكون الأساس الذي تقوم عليه المشاركة والمنصة التي تنطلق منها الحكومة الجديدة. { فتح الحزب لباب المشاركة يعكس بدءاً ثقةً بالذات وبمستوى وعي المواطن وبإدارك الحزب ودقة حدسه لضروريات ومتطلبات المرحلة وقدرته على قراءتها بشكل صحيح واتخاذ ما يلزم من إجراءات وقرارات ومواقف. { الشعب لن ينسى للحكومة الحالية وللحزب الأكبر فيها الإقدام على مثل هذه الخطوة وطرح مثل هذه المبادرة. فكما قلنا في صدر هذا المقال هذه الحكومة منتخبة من قبل غالبية الشعب وهي تملك الشرعية الدستورية التي تؤهلها لحكم البلاد وإدارة شؤونها. ولكننا نعول كثيرا على حكمة وتجربة القائمين على أمر البلاد بقيادة الرئيس البشير، الذي يملك كل مقومات الشخصية الوطنية التي تتخطى كل قيود الحزبية والتبعية الضيقة. فالرجل محبوب من كل فئات الشعب حتى أولئك الذين يختلفون مع حزبه سياسيا تجدهم أسعد ما يكونون بطلته البهية وسودانيته التي أدخلته قلوب كل أفراد الشعب. هذا، بجانب حكمته وتجربته الثرة وأمور أخرى كثيرة، ما يؤهله لقيادة البلاد خلال المرحلة المقبلة بشكل قومي يتجاوز الحزبية. نريد من السيد الرئيس أن يكون مرجعية للجميع، لكل الأحزاب والأفراد، أن يكون قوميا في فكره وطرحه وتعاطيه. ونريده أن ينظر لكل أفراد الشعب كأبنائه حتى أولئك الذين حملوا السلاح ضد الحكومة كما هو الحال في دارفور، يجب أن ينظر إليهم – تحديدا- من قبل رئيس الجمهورية بأنهم أبناء عاقون، ينتهي عقوقهم بوضعهم السلاح الذي حملوه ضد الحكومة وأهلهم وبني جلدتهم وعودتهم إلى أحضان الوطن. { يجب أن يولي برنامج الحكومة العريضة مساحة كبيرة لقضايا المواطن والوطن، مثل محاربة الفقر بإيجاد فرص عمل جديدة تستوعب جيوش الخريجين والعاطلين عن العمل، وتوسيع آليات التمويل الأصغر لتصل إلى أولئك المحتاجين حقا- وهم كُثر- فتخفف عنهم شظف العيش وتذهب عنهم بأس الحياة وتمنحهم أملا في غد مشرق لهم ولأبنائهم. فالاهتمام بالشريحة الأضعف والأقل دخلا من الشعب يجب أن تكون المنطلق الأول لبرنامج المرحلة القادمة، ويجب ألاّ ننسي أننا إنما ننصر بهم. ومثل هذه القضايا يجب أن تمثل أولويات برنامج الحكومة العريضة. { إذا نحن نؤيد وأكاد أجزم بأن السواد الأعظم من أفراد الشعب يؤيد تشكيل حكومة عريضة بل ونعتبرها ضرورة لتجديد الدماء والبرامج والسياسات لتواكب المستجدات. ولكننا لا نريدها حكومة عريضة بحيث تضم أحزابا وأفرادا وأوجها جديدة في الدوائر التشريعية والتنفيذية والقضائية فقط، بل نريدها أيضا عريضة من حيث النوع والكيف، وأن يجد ما سبق وصرح به السيد رئيس الجمهورية أكثر من مرة بأن المواطن السوداني هو مبتدأ ومنتهى سياسات الدولة، وأن يستقيل السيد الرئيس من أي منصب حزبي ويتفرغ حقيقية لإدارة شؤون الدولة بقومية تترفع عن أية حزبية مهما كانت شريفة وطاهرة ونقية. فالتضحية بالقضية من أجل النفس يقتلها، والتضحية بالنفس من أجل القضية يحييها، وليس هناك قضية أجل أن يُضحى بها بالنفس من قضية العقيدة والوطن وهذا الشعب الأبي. فلتدم أنت أيها الوطن، وليدم إنسانك عزيزا كريما على مر العصور والأجيال. متخصص في شؤون الاتحاد الأوروبي