ماراثون اتفاقية نيفاشا للسلام قد شارف على نهاياته، وها هو الجنوب بدأ يتهيَّأ لإعلان الدولة الجديدة، وها هو الشمال أيضاً يتهيَّأ لاستقبال الحدث. وما بين هذا وذاك، تظل القوى السياسية في الشمال في حالة ترقُّب وحِراك، تارة إيجابياً وتارة مضاداً، خاصة أحزاب المعارضة في مواجهة أحزاب الحكومة، والعكس أيضاً. وفي هذا تتداخل اتجاهات القوى السياسية اختلافاً.. تحالفاً.. واستقطاباً. إذن.. فالتداعيات تتدحرج كرتها نحو المواقيت المهمة من عمر السودان هنا وهناك، وفي هذه الأثناء مازال الكل يُجمِع، حكومة ومعارضة، على ضرورة توفُّر حِراك وطني عام، بعيداً عن أجواء التوتُّر والشحن العقدي أو الجهوي أو الاستقصائي. ولكن كيف؟ لازال البحث جارياً في شكل مياه تحت الجسر ومياه فوق الجسر، حراك يمكِّن البلاد من العبور بنجاح ويُعزِّز من قيمة الدفاع عن المصالح الحيوية التي تربط الشمال بالجنوب، لأنّ ما بينهما عوامل دفع يجب أن تتغلَّب على كل عوامل الإبعاد والتجافي والتمزيق. فكيف نجعل من التداعيات القادمة أحداثاً ومحطات للأمن والاستقرار والسلام والديمقراطية؟ سؤال مفتوح تظل إجابته مربوطة بالسلوك السياسي الراشد لأحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة. في هذا الحوار الذي ننشره في حلقات نطوف مع العضو السابق بمجلس رأس الدولة القيادي بحزب الأمة د. علي حسن تاج الدين، على مجمل الفلك السياسي وأحداث الساعة.. حيث بدأنا هذه الحلقة معه من الحوار بالسؤال: { أين يقع علي حسن تاج الدين من الإعراب السياسي والمشهد والحدث الآن؟ - علي حسن تاج الدين، موقعه من الإعراب السياسي هو سياسي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويراقب الوضع السياسي بإشفاق شديد وحزن عميق وقلب يقطر دماً، لكن في الحديث مع الناس نبتسم ونُعطيهم أملاً في أن السودان سيخرج من كبوته وأزمته هذه إلى بر الأمان في زمن متعقد، فبعد أن كنت في مجلس رأس الدولة إبّان الديمقراطية الثالثة، وبعد انقلاب يونيو 1989م، لم أخرج من السودان لمدة عقد من الزمان، وخرجت بعد ذلك في العام 1999م، وجلست معارضاً من خلال حزب الأمة القومي، ودار الزمان وعجلة السياسة، ولخلاف مع حزب الأمة القومي التحقت في ما بعد بمجموعة مبارك الفاضل، في ما يُعرف ب (حكومة الوحدة الوطنية) وصرت مستشاراً لرئيس الجمهورية في الفترة من أغسطس 2002 إلى نهاية أغسطس 2005م، أي لثلاثة أعوام، وأصدقك القول أنّه بسبب دارفور وما حدث في الإقليم تم الفراق.. والفراق على الأقل بالنسبة لي هو في رؤية كيفية معالجة قضية دارفور. { هل الفراق الذي تقصده هو مغادرة موقع المستشارية، أم فراق بينك وبين أهل الإنقاذ كحاكمين؟ - نعم بيني وبين أهل الإنقاذ، فلم يتم إشراكنا - ونحن كُثْر - في كيفية معالجة القضية، والرؤية الرسمية لقضية دارفور من قِبل الحكومة كانت مبنية على المعالجة الأمنية، وليست المعالجة السياسية، وبالتالي تم الفراق بعد تشكيل حكومة ما قبل الانتخابات الحالية، وغادرت العمل السياسي لفترة وبعدها عدت لحزب الأمة في العام 2008 إلى ما بعد المؤتمر العام، والآن مع حزب الأمة القومي، أساهم بما أستطيع من رؤية للوصول إلى بر الأمان في ظروف السودان المعقّدة، وفي مقدمة هذه الظروف تأتي قضية دارفور بالنسبة لي. { الاحتفائية التي شهدناها من حزب الأمة بعودة مبارك الفاضل لم نُشاهدها عند عودتك. فهل مرد ذلك إلى متلازمة صفة آل البيت، وهل حزب الأمة يُميِّز بين هذا وذاك؟ - لا .. أبداً، أنا لي علاقة وطيدة مع السيد الصادق المهدي، وعندما عدتُ للحزب لم أكن وحيدا، بل عاد معي القيادي المعروف يوسف تكنة، عدنا بدون أي بيان وبدون أي شرط أو قيد. { الصادق المهدي قال أكثر من مرة إن الذين خرجوا من الحزب لا بد من أن يعتذروا كشرط من شروط العودة مرة أخرى، فهل اعتذرتم؟ - لا.. على الإطلاق.. الحديث السياسي شيء والواقع العملي شيء آخر.. وأنا لا أعتقد أنني ارتكبتُ خطأً حتى أعتذر، وكل ما في الأمر هو تقدير موقف سياسي وخلاف سياسي. وهنا أبوح بسر وأنا أقول لك إننا قُدنا حواراً سرياً مع المؤتمر الوطني عندما كانت المعارضة جميعها في الخارج، والإمام الصادق المهدي أيضاً في الخارج، وهذا الحوار تطوّر إلى أن قاد للعودة. { هل هذا التحرُّك كان قبل لقاء جنيف الشهير بين الترابي والصادق المهدي أم بعده؟ - هو أثناء لقاء جنيف وبعده، فعندما هاجر الإمام الصادق المهدي في عملية (تهتدون) إلى إريتريا كُلِّفت منه بخطاب رسمي بأن أُسلِّم خطاباً للرئيس البشير، وكان ذلك في أواخر العام 1996م، وكان خطاباً نارياً وصعباً للرئيس البشير. وعندما دارت عجلة السياسة والأمور والأجندات والخلافات، بدأ الحوار وفق اتفاقية جيبوتي في العام 1999م، ووقتها كان الصادق المهدي في القاهرة، وأنا من حمل خطاب العودة الذي سُميَّ ب (تفلحون) الموجَّه للرئيس البشير، الذي بموجبه عاد المهدي وعادت المعارضة، وقبله جاء مبارك الفاضل وعمر نور الدائم ، ولكن خلال الفترة من 1997م إلى 1999م جرت مياه تحت الجسر في شكل حوار سري بين حزب الأمة والمؤتمر الوطني، ووقتها كنت عضواً في هذه اللجان، وحاورنا كل قادة المؤتمر الوطني ورجالات صفِّهِ الأول من خلال لجنة مُصغّرة ضمت شخصي والراحل د. عمر نور الدائم، وعبد المحمود أبُّو، والزهاوي، والتحق باللجنة أحمد بابكر في فترة، وكان هناك حوار سري حول قضايا محدّدة: كيف يكون هناك سلام وتحوُّل ديمقراطي وكيف تُحل قضية الجنوب؟. { هل عودتك للحزب الآن تحمل معها أي طمع أو طموح سياسي في الوصول لمناصب قيادية على الأقل داخل الحزب؟ - أنا لا أحب الأضواء ولا أحتاج إليها، ولستُ طامعاً في أي منصب قيادي في الحزب، وأنا من المؤمنين بأن هذه الفترة لا بد أن تكون هي للشباب. { بعد عودتك لحزب الأمة هل وجدت ثمَّة تطور في الأداء الديمقراطي داخل أجهزة الحزب مما يُحفِّز الآخرين للعودة، لا سيما وأن بعض مخضرمي الحزب مازالوا ينتقدون مسيرة الأداء الديمقراطي فيه، فكيف وجدت الحال؟ - حقيقة مقارنة بالأحزاب الأخرى فحزب الأمة هو أكثرها ديمقراطية، وبالتالي الديمقراطية الموجودة في حزب الأمة لا توجد في أي حزب حاكم أو معارض، وأي شخص يريد التأكد من ذلك عليه أن يأتي ليسمع ويرى ويشاهد اجتماعات المكتب السياسي. { في سبيل الوصول لحكومة ذات قاعدة عريضة تمضي الآن مسيرة الحوار بين المؤتمر الوطني وحزب الأمة في إطار التفاهمات الوطنية.. إلى أي مدى تنظرون لهذه الخطوة وتدعمونها؟ - السودان الآن في موقف حرج، وجزء عزيز منه انفصل وأصبح دولة، وأجزاء عزيزة منه فيها صراع مُسلَّح، والسودان الآن حصل على ما لا يقل على (23) قراراً من مجلس الأمن، وله صراع مع الأسرة الدولية، والظروف الاقتصادية حرجة، فالدولة اعتمدت على البترول على حساب الجانب الأكبر «الزراعة»، ثم انفصل الجنوب وصار الدخل القومي السوداني محصوراً والمشاكل كثيرة ومتشعبة، وبالتالي فلا بد من حدوث نوع من التغيير للأفضل في حقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد ومحاربة الفساد. والآن موارد الدولة شحيحة وجهاز الدولة منتفخ بصورة مروِّعة، فلماذا يكون في السودان (77) وزيراً.. سواء أكانوا وزراء مركزيين أو وزراء دولة أو مستشارين، ولا بد من أن تُعاد هيكلة الدولة، واتفاقية نيفاشا لم يتبق فيها شيء وهي أتت أُكلها. وبالتالي في هذه الظروف لا بد من أن تُعاد هيكلة الدولة ويبدأ ذلك بتعديل الدستور وإعادة الهيكلة بما يتماشى مع متطلبات المرحلة، ويجب ألا ننسى أن هناك موجة تغيير وأصبحت السيادة في العصر الحديث هي للشعب، لذلك فعندما يتحدث الناس عن حكومة ذات قاعدة عريضة وحكومة قومية، نقول إن المطلوب حكومة تُجابه مشاكل السودان وتستفيد من كل التجارب التي حدثت في الدول المحيطة بالسودان. ومن هنا بدأ حزب الأمة في الحوار الذي لا بد من أن يصل إلى نتيجة جماعية، بحيث لا بد من أن يكون الناتج من هذا الحوار هو ناتج جماعي لا يستهدف حزب الأمة والمؤتمر الوطني فقط، لأن النتيجة إن كانت بهذه الكيفية فلن تحل المشكلة. { المعارضة «التحالف» بعد أن كانت مؤيدة ومفوضة للصادق المهدي في حواره مع الحكومة، سحبت مؤخراً هذا التفويض ووصفت ما يجري بأنه حوار ثنائي، وبالتالي قاطعت الحوار؟ - حقيقة كلٌ يغني ليلاه، وكلٌ له أجندته الخاصة، ولكن أنا بالنسبة لي الأجندة العامة هي الخروج بالسودان من المأزق الذي نحن فيه، وهذا هو المهم.. وله أولوية وليس أولوية حزب، فأنا لا يهمني من يحكم، بل ما يهمني كيف يحكم، وكيف تُحل هذه المشاكل المعقّدة، مع التربُّص الدولي والذي به قد تفقد سيادتك الوطنية. { كيف ينظر حزب الأمة لشكل الحكم في ظل الدستور القادم، مع العلم أنه ظهر في الساحة من يُنادي بالجمهورية البرلمانية؟ - السودان حسم أمره في الجمهورية الرئاسية وهي الشكل الأنسب للحكم، ولا بد من أن نرجع لقرارات الرئيس السابق الراحل جعفر محمد نميري في ما يتعلق بالنظام الإقليمي وذلك في جعل السودان الشمالي ستة أقاليم. { هل هناك كلمات يمكن أن تقولها في حق البشير؟ - هو سوداني أصيل وود بلد بكل ما تعنيه الكلمات، ولكنه يحمل عبئاً ثقيلاً وصعب وفي ظروف معقّدة يواجهها السودان، وأنا على يقين أنه يريد مساعدة الآخرين في (الشيل) ولكن بمستحقاته، فالقوى السياسية تستطيع المساهمة ولكن بمستحقاتها بعيداً عن أي أشياء ذاتية، وآن الأوان لأن نُطبِّق مبدأ بقاء الدولة.