ماراثون اتفاقية نيفاشا للسلام قد شارف على نهاياته، وها هو الجنوب بدأ يتهيَّأ لإعلان الدولة الجديدة، وها هو الشمال أيضاً يتهيَّأ لاستقبال الحدث. وما بين هذا وذاك، تظل القوى السياسية في الشمال في حالة ترقُّب وحِراك، تارة إيجابياً وتارة مضاداً، خاصة أحزاب المعارضة في مواجهة أحزاب الحكومة، والعكس أيضاً. وفي هذا تتداخل اتجاهات القوى السياسية اختلافاً.. تحالفاً.. واستقطاباً. إذن.. فالتداعيات تتدحرج كرتها نحو المواقيت المهمة من عمر السودان هنا وهناك، وفي هذه الأثناء مازال الكل يُجمِع، حكومة ومعارضة، على ضرورة توفُّر حِراك وطني عام، بعيداً عن أجواء التوتُّر والشحن العقدي أو الجهوي أو الاستقصائي. ولكن كيف؟ لازال البحث جارياً في شكل مياه تحت الجسر ومياه فوق الجسر، حراك يمكِّن البلاد من العبور بنجاح ويُعزِّز من قيمة الدفاع عن المصالح الحيوية التي تربط الشمال بالجنوب، لأنّ ما بينهما عوامل دفع يجب أن تتغلَّب على كل عوامل الإبعاد والتجافي والتمزيق. فكيف نجعل من التداعيات القادمة أحداثاً ومحطات للأمن والاستقرار والسلام والديمقراطية؟ سؤال مفتوح تظل إجابته مربوطة بالسلوك السياسي الراشد لأحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة. في هذا الحوار الذي ننشره في حلقات نطوف مع العضو السابق بمجلس رأس الدولة القيادي بحزب الأمة د. علي حسن تاج الدين، على مجمل الفلك السياسي وأحداث الساعة.. حيث بدأنا هذه الحلقة معه من الحوار بالسؤال: { لقد انتهت نيفاشا بدولة الجنوب، فما هو تصورك لهذه الدولة الوليدة؟ - إذا نظرنا إلى خارطة أفريقيا، وأنا على علم إلى حد ما بالدول الأفريقية، فهناك دول وهمية صارت دولاً يُشار إليها بالبنان الآن. فتعريف الدولة هو الأرض والشعب والحكومة وهذا متوفر في هذه الدولة. فالجنوب فيه حكومة لها خبرات طويلة سياسية وعسكرية ولهم أصدقاء من المجتمع الدولي والمجتمع الإقليمي، فالجنوب يملك مقومات الدولة وبالتالي فأي رهان على الفشل هنا فهو قد يكون رهاناً غير صحيح، وأنا في الشمال من الأفضل لي أن تنجح دولة الجنوب وتكون دولة شقيقة حتى يعيش السودان مستقبلاً في اتحاد واحد، وبالتالي فالناس يجب ألاّ يكونوا قصيري النظر، ففي عام 1960م الجنرال ديغول قال للأفارقة جميعهم هل ترغبون في الانضمام إلى فرنسا ك(مستعمرات) أم تمنحكم الاستقلال؟ وبالفعل أفريقيا جميعها استقلت ولكن بالتعاون مع الفرانكفونية ما عدا دولة واحدة قالت أنا أريد الاستقلال ولا صلة لي بفرنسا وهي غينيا كوناكري. كما أن تشاد عندما استقلت كان فيها طبيبان ومدرسة ثانوية واحدة والآن صارت دولة، وكذلك بوركينا فاسو في العام 1983م لم يكن فيها شيء والآن اختلف حالها تماماً. { برز تناقض مؤخراً في موقف حزب الأمة والصادق المهدي تجاه الثورة الشعبية في ليبيا، فهل يساند الحزب القذافي عرفاناً لفترة سابقة يحفظها له؟ - الحزب لا يرتهن إلى القذافي في شيء وموقف حزب الأمة واضح من هبَّة الشعب الليبي. { إذن، الحزب ليس متردداً ولا خجولاً من تأييد الانتفاضة هناك، أليس كذلك؟ - لا ضبابية في الموقف هنا، فأنا شخصياً أعرف القذافي منذ العام 1986م، وكنت وسيطاً بين القذافي وحسين هبري في الحرب التشادية الليبية الفرنسية، فموقف حزب الأمة هو مع إرادة الشعب الليبي دون أي تحفظ على الإطلاق، فالشعب الليبي ثار من أجل التغيير والحرية، فهذا هو الموقف الرسمي لحزب الأمة، وعندما اشتد الموقف وحدثت مجازر في ليبيا أرسل الإمام الصادق المهدي خطاباً للقذافي في نصف صفحة ونفس هذا الخطاب تم نشره ومن خلاله قدم له نفس نصيحة الجامعة العربية ونصائح كل العالم. فحزب الأمة لا يمكن أن يكون مع التسلط والقهر، فليس هناك حزب له علاقة صداقة تسمو فوق إرادة الشعب، فنحن قد تكون لنا مصالح سياسية، فلا وألف لا لعلاقة أو صداقة على حساب مصالح دولتنا وشعبنا، فنحن نؤمن بمبدأ بقاء الأمة وزوال الأفراد، فنحن مع كل من ينشد حياة حرة كريمة ويتخلص من الطغيان. { أثناء فترة حكم الديمقراطية الثالثة، وأنت كنت في قمة الجهاز السيادي للدولة، أطلق القذافي وقتذاك تصريحات نارية قال فيها بالحرف الواحد: «لقد خاب ظني في الصادق المهدي». فما هو الظن الذي خاب من وجهة نظر القذافي حسب تقديرك؟ - الحمد لله لقد شهد شاهد من أهلها كما يقال، لقد خاب ظنه في الصادق المهدي لأن إرادته كانت هي إرادة سودانية فخاب ظنه بمعنى أن أفكاره المطروحة من كتاب أخضر وغيرها لم يعمل بها، فنحن الكتاب الأخضر لا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد، فنحن ذهبنا في زيارة في تلك الأيام فوجدنا اللجان الثورية وجلسنا معهم وقدموا لنا النظرية الثالثة فقلنا لهم هذا يخصكم أنتم ولكن نحن في السودان لنا نظام حزبي ونظام ديمقراطي وتعددي، فلن نتفق معه لا من قريب ولا من بعيد. { هل حاول القذافي فرض نهج الكتاب الأخضر عليكم؟ - لم يحاول ولن يستطيع، فالسودانيون كان لهم نادٍ سياسي هو نادي الخريجين في العام 1939م ففي ذاك الوقت أين كانت ليبيا في خريطة العالم السياسية؟ { د. علي، نريد منك أن تبوح لنا ببعض الأسرار، أي لغة الأسرار جهراً، وأنت كنت نافذاً في القصر الجمهوري إبان حكم الديمقراطية الثالثة، فهل حسني مبارك والقذافي كانا متعاونين مع النظام الديمقراطي وقتذاك بما يكفي أم ما انفكا يتربصان به؟ - كانا في إطار كل شخص يبحث عن مصالحه، وفي إطار الصراع المصري الليبي، فالقذافي كان يعتقد أن حزب الأمة هو الأقرب إليه بحكم إيوائه المعارضة في ليبيا من خلال الجبهة الوطنية وصراعها مع نميري الذي كان موجوداً في القاهرة وقتذاك، فصحيح عرضوا علينا مسألة اتحاد وشراكة سياسية ولكن نحن قلنا تعاوناً أخوياً فأصدرنا وثيقة سميناها التعاون الأخوي الليبي، ووثيقة مع مصر أيضاً سميناها التعاون الأخوي المصري. { هل بذهاب القذافي من الحكم ستنتهي بعض العقد المحيطة بالعامل الخارجي في إشكالية دارفور؟ - لا.. بالعكس فالقذافي بخلاف استضافته لخليل إبراهيم ليس له اليد الطولى في قضية دارفور، فقضية دارفور هي قضية السودانيين وبالتالي ليست هي قضية ليبية، أي قضية إرادة سياسية داخلية. { بوصفك قيادياً وسياسياً كبيراً وتنتمي إلى دارفور، ما هو تصورك للحل؟ - الحل هو في توافر الإرادة السياسية، فقضية دارفور هي قضية السهل الممتنع وبالتالي تحتاج لإرادة سياسية حقيقية من طرفي النزاع (الحكومة والحركات)، فمن الحكومة لا بُد من إرادة سياسية حقيقية في الاستجابة لمطالب دارفور التي هي مطالب مشروعة وهي مطالب سودانية، وتتوقف مطالب وحقوق دارفور عند حدود كردفان، وحدود مطالب دارفور في المشاركة في الثروة والسلطة عند حدود الإقليم الأوسط ومطالب الإقليم الأوسط في المشاركة في الثروة والسلطة تنتهي عند بوابة سوبا. فحل قضية دارفور يتأتى بالاستجابة إلى مطالب دارفور، بحيث أن يعمم الحل لكل السودان. وأهل دارفور مطالبهم بسيطة وهي الدعوة للإقليم. وأنا في لجنة خيارات الحلول في مؤتمر أهل السودان كنت قد قدمت مداخلة دافعت فيها عن الإقليم وكان رئيس اللجنة الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية. فكان رأيي أن نعود إلى نظام الأقاليم مثلما كان في فترة حكم جعفر نميري ونحتفظ بالولايات ولكن مع ضرورة تقطيع أوصال التضخم السرطاني في الوظائف الدستورية إلى آخرها، فأهل دارفور هم يطالبون بالإقليم. { ما هي رسالتك للحركات الدارفورية المسلحة؟ - في الحقيقة الحركات الفاعلة هي حوالي (4) حركات وأنصحهم هنا أن يتفقوا على الأجندة التفاوضية وهم متفقون على ذلك. { الآن هناك من يقول إنه يمثل دارفور ويجب التفاوض معه، مثل أركو مناوي وغيره، كيف تنظر للحال هنا؟ - لا مناوي ولا علي تاج الدين لا خليل ولا حاج آدم ولا أي شخص يستطيع أن يقول إنا ممثل لدارفور بل يقول أنا ابن من أبناء دارفور أو مواطن، فكلمة تسييس القبلية والإثنية هي حديث فارغ. { هل الترابي يملك 90% من حل أزمة دارفور إن أراد - حسب ما قال البعض؟ - مع احترامي الشديد للشيخ حسن الترابي، لا أعتقد أنه بنفسه يقول ذلك على الإطلاق، وهو شخص سياسي وخبير.