تعودت الصحف السيّارة منذ عدة أشهر سابقة، على الخروج - في مانشيتات عريضة- بأنباء عن اعتصام وإضراب الأطباء في المستشفيات عن العمل. ولا تزال إلى الآن سلسلة هذه الإضرابات مستمرة ومتفاقمة، فبالأمس القريب تعطل العمل في مستشفى الخرطوم التعليمي وحدة الغسيل الكلوي، التي تستقبل ما لا يقل عن (120) مريضاً بالفشل الكلوي يومياً، إلى جانب وحدة الطوارئ المركزية بالمستشفى، التي تستقبل جميع الحالات الحرجة لمرضى الكلى من مختلف الولايات بالسودان. يحتوي المركز على (32) جهازاً لغسيل الكلى، ويتم العمل بالأجهزة عن طريق الورديات، التي تبدأ من السادسة صباحاً إلى العاشرة صباحاً، ومن الثانية عشرة ظهراً إلى الرابعة عصراً، ومن الخامسة عصراً إلى التاسعة مساء، ومن العاشرة مساء إلى الثانية صباحاً، بواقع (4) ساعات كاملة يقضيها مريض الفشل الكلوي بالجهاز. وحدة الغسيل الكلوي بمستشفى الخرطوم التعليمي، مقسمة إلى أربعة عنابر، هي: عنبر الطوارئ المخصص لاستقبال الحالات الحرجة، وعنبر الأطفال المصابين بالفشل الكلوي، وعنبران آخران مخصصان لاستقبال بقية حالات المرضى. من داخل مستشفى الخرطوم التعليمي تلقت (الأهرام اليوم) مكالمة تلفونية من عدد من مرضى الفشل الكلوي، يطالبون برفع أصواتهم، وعكس معاناتهم للمسؤولين في المركز القومي لغسيل الكلى، ووزارة الصحة، ووزارة المالية، بضرورة التدخل الفوري لإنقاذ حياتهم، فكل ساعة تمر من جراء إضراب الأطباء والممرضين والعاملين بالمركز؛ تسهم في تأخر حالات ذوي الحالات الحرجة، وتفقد أرواح من هم بحاجة ماسة إلى جرعة دواء وغسيل كلوي. شاهدنا بأعيننا معاناه المرضى، الصغار منهم والكبار، يفترشون الأرض، مع ارتفاع درجات الحرارة القاسية انهارت قواهم تماماً، فلا طاقة لديهم للحراك أو الكلام، ويتخوفون من تناول الماء الذي من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع الأملاح والبوتاسيوم والبولينا القاتلة. خارت قواهم تماماً، ولا خيار أمامهم سوى البقاء والانتظار، فلا أمل لديهم سوى التشبث وانتظار الفرج لمزاولة العمل. حسين علي حبوب، شاب في مقتبل العمر، مصاب بالفشل الكلوي منذ عام ونصف العام تقريباً، يجري عمليات الغسيل الكلوي بمعدل ثلاث جلسات في الأسبوع، و(12) ساعة يقضيها المريض أمام الجهاز تشكل ضرورة قصوى لاستمرار بقائه في الحياة. أوضح حسين علي، أنه ومنذ الأحد الماضي لم يجر غسيلاً كلوياً بسبب اعتصام العاملين بالمستشفى عن أداء عملهم، وهو متخوف جداً من استمرار الإضراب لأيام قادمة، وهو - على الرغم من توقف العاملين - منحاز جداً إلى جانبهم، موضحاً ل(الأهرام اليوم) أنه من واقع معاش شخصي لامس التعامل الجيد من ناحيتهم مع المرضى وإسهاماتهم الفردية في توفير الكثير من المعينات التي عجز المركز القومي للكلى عن توفيرها، قائلاً إن بعض الأطباء يمنحون المرضى مصاريف المواصلات من جيوبهم الشخصية. وشاركه الحديث المريض طارق عبد الباقي الذي يعاني من مرض الفشل الكلوي منذ أكثر من (6) أعوام، ويجري غسيلاً دورياً بواقع ثلاث جلسات في الأسبوع، حيث أوضح أنه وعدداً كبيراً جداً من المرضى عانوا معاناة كبيرة من عدم توفر أدوية الغسيل الكلوي بالمركز، مثل الهيبرين الذي يبلغ سعره (12) جنيهاً ويحتاج إليه المريض في كل غسلة، والحقن والملصقات والشاش الذي عجز المركز مؤخراً عن توفيره للمرضى. داخل العنابر، الأجهزة متوقفة، وثلاثة مرضى يستلقون على ظهورهم بعد عجزهم عن إقناع الكادر الطبي بمزاولة العمل. أجرى عدد كبير منهم فحوصات البوتاسيوم التي سجلت ارتفاعاً كبيراً وصل إلى (6.600) من عشرة لدى البعض، وهو مؤشر ينذر بالخطر المميت للمرضى المصابين. من المسؤول..؟! السؤال الذي يطرح نفسه بعد مشاهدة هذا السيناريو الذي يرسم معاناة المرضى، هو: من المسؤول عن توقف العمل في مستشفيات الطوارئ؟ وهل صحة المرضى تتحمل التلاعب واندثار الأوراق والتخلي عن المسؤوليات؟ ولماذا لم يُمنح العاملون بالمركز ووحدة الطوارئ لغسيل الكلى مستحقاتهم المالية لمدة ثلاثة أشهر؟ الدكتور هشام حسن، اختصاصي جراحة وأمراض الكلى، ومدير وحدة الغسيل الكلوي بمستشفى الخرطوم التعليمي، أوضح أن الاعتصام عن العمل كان مقرراً منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، مؤكداً أن تأخر الميسِّرات المادية والاستحقاقات هو السبب الرئيسي لهذا الإضراب، حيث أن إدارة المركز لم تتسلم أي مبالغ مالية من المركز القومي لغسيل الكلى منذ شهر يناير، موضحاً أن ميزانية التسيير السابقة المصدق بها من قبل وزارة المالية هي (110) آلاف جنيه لتغطية جميع احتياجات المركز المالية السابقة، حيث أن هذا المبلغ كان بالكاد يوفر مرتبات العاملين وثمن الأدوية والمحاليل المستخدمة. إلا أن سياسة التقشف الجديدة أمرت بتخفيض المبلغ بنسبة (40%) الأمر الذي أدى إلى ظهور عجز حقيقي في توفير المعينات. وقال: «من جانبنا نحن كإدارة رأينا أن أحقية المرضى بتناول الأدوية هي الأهم لأنهم ذوو الحاجة الأساسية للعلاج، الأمر الذي أحدث تراكماً في عدم صرف مستحقات الأطباء العاملين، فهذا القرار من قبل وزارة المالية يعتبر قراراً غير مدروس وذا مردود سلبي، وخطراً يمس صحة المواطن، فمرض الكلى خطير ومدمر ومهلك للمريض في حال عدم السيطرة عليه وإجراء الغسيل الدوري». ومن جانبه أكد الدكتور هشام حسن أنه وعدداً من الزملاء بالمركز التقوا بوزير المالية وطرحوا عليه الإشكالية وتم تحويلهم إلى إدارة الموازنة التي اعتذرت بدورها عن عدم توفير النقص المادي للميزانية الشهرية، وهو الخيار الوحيد لتسيير العمل في وحدة الغسيل الكلوي ووحدات الطوارئ، حيث أن جميع محاولات الأطباء والإدارة لإقناع العاملين بالوحدة بمزاولة العمل باءت بالفشل، فالتعاون السابق كان في إطار العمل الإنساني ولكن الحاجة هي الصفة الغالبة لدى كل العاملين بالمركز.