{ كنتُ ذات ربيع جميل، أخرج من الخرطوم بصالة كبار الزوار، كما يخرج النبلاء والرؤساء في رحلة من ذوات الخمس نجوم، ثم أقلع على «درجة رجال أعمال» على متن طيران الخليج في رحلة ماراثونية، الخرطوم - الدوحة، وكنت استحوذ على مقعدين فاخرين بدرجة رجال الأعمال، أي والله، مقعد أجلس عليه، ومقعد تجلس عليه شنطتي، أي والله فللشنطة مقعد، لكنها أي شنطة، كنت أحمل بتلك الشنطة «عملات صعبة» تقترب من الثلاثة ملايين دولار أمريكي. وبمناسبة «العملات الصعبة» هذه، قيل إن رجلاً خليجياً كان يدخل السودان عبر مطار الخرطوم الدولي، فسأله ضابط الجمارك: «كم معك من العملات الصعبة»؟ قال الرجل: «ماذا تعني بالعملات الصعبة»؟ قال الضابط: «أعنى عملات مثل الدولار والإسترليني». قال الرجل الخليجي: «وما وجه الصعوبة في هذه العملات»! ف«العملات الصعبة» مصطلح سوداني موغل في المحلية. { فقد خرجت بذلك المخرج الصعب أحمل تلك العملات الصعبة، تبَّت يد المستحيل، وحتى لا يهتف الرفاق يوماً «الشعب يريد إسقاط الملاذات»، فلم تكن تلك العملات الصعبة ومقعدها ووجهتها ونجومها، إلا ما يطلق عليه الصيرفيون رحلة ال(CASH SENDING)، رحلة دورية معتادة يضطلع بها موظفو المصارف فيرحلّون عبرها بعض النقود الأجنبية إلى دولة البحرين، مهبط المصارف العربية وعملاتها. { استدعي تلك الرحلة بمناسبة «ثورة دوّار اللؤلؤة» التي تجمِّل شاشات الفضائيات هذه الأيام، ووجه الجمال في هذه الثورة هو «دوّار اللؤلؤة» مكاناً وشكلاً وموقعاً، فبالتأكيد أنا لا أحتفل بخروج جماهير المملكة على نظمها وأطرها فذلك شأن داخلي، ولكني احتفل بعبقرية المكان، فهذا زمان عبقريات الميادين العربية، والقصة التي تمر الآن بميدان الأول من يناير في الجزائر، وبالطبع قد مرت بميدان التحرير بوسط القاهرة، وميدان محمد الخامس بالمملكة المغربية، وميدان بورقيبة وشارعه، لا أدري، بتونس الخضراء، الذي أرجو أن يطلق عليه «ميدان الشابي» أبو الثورات العربية، «إذا الشعب يوماً أراد الحياة». ولئن كانت هذه فرصة لنتبارى في أذواق الشعوب العربية ومصطلحات ميادينها، فدوار اللؤلؤة بلا شك سينتزع الدرجة الأولى الممتازة، وأسأل الله أن لا يدخل ميدان «أبوجنزير» إلى هذا الماراثون المياديني، لا لشيء فقط لأن هذا الاسم لن يؤهلنا إلى منافسة التحرير و«اللؤلؤة»، فما أروع تلك الميادين! { لبثتُ في مملكة البحرين خمسة أيام، ولقد فرغت من مهمتي في ثلاث ساعات طفقت بعدها في تطواف على كل معالم المملكة، جسر الملك فهد الذي وُضع على الخليج ليصل بين المملكتين البحرينية والسعودية، ومدن المحرق والشيخ خليفة، ...إلخ، و«قصر اللؤلؤة» القريب من مقر إقامتي بفندق البحرين ذو النجوم والسهرات الصاخبة. كان تعداد مملكة البحرين يومها ما يقارب المليون شخص، ثلثهم مقيمون. { فقد هبطت على المنامة مع الربيع حيث يهوي إليها كثير من المتسوحين. أحد المقيمين السودانيين اجتهد في ضيافتي وإكرامي، فأخذني إلى قاعة صاخبة «مغلقة» ومقلقة، كانت على مسرح القاعة فرقة إثيوبية من فتيات الأمهرا، وكنّ يغنين أغاني غربية نظراً لوجود بعض الخواجات، ولما جلسنا بأزيائنا السودانية شدونَ الأمهريات بأغنية وردي «كبرتي وليك تسعتاشر سنة» وصِرنَ (يبشِّرنَ) على الطريقة السودانية، وقبل أن تراق الخمور، قلت لمضيفي: جزاك الله خيراً.. أنا أحترم شعورك، يجب أن نغادر المكان فوراً، ولا تنسى «فأنا رسول مصرف إسلامي إلى مملكة البحرين»! فانصرفنا. { تحتدم مشاعري هذه الأيام، وتتأجج الذكريات؛ «فدوّار اللؤلؤة» يدخل على الفضائيات من أوسع الأبواب. وأرجو في خاتمة المطاف أن «ينتصر الدوّار» وتسلم اللؤلؤة ويحفظ الله العباد والبلاد.