توقع كثير من الناس أن تفرز الثورات العربية التي انطلقت من تونس، وشملت مصر واليمن وليبيا والبحرين؛ تحولات كبيرة في المحيطين الإقليمي والدولي، تؤدي إلى صياغة منطقة الشرق الأوسط من جديد. وهؤلاء قالوا إنه مثلما كان حجم ونتائج الثورات استثنائيين؛ أيضاً الآن هناك مؤسسات مسؤولة أخرى تمضي في ذات الاتجاه، والحالة هذه كانت بالنسبة لجامعة الدول العربية التي قامت لأول مرة باتخاذ قرار كبير، وافقت بموجبه على قرار حظر الطيران في ليبيا دفاعاً عن شعبها، بعدما كانت كل القرارات في السابق، تتخذ في إطار دعم الأنظمة الحاكمة. لكن يبقى هذا التحول مرتبطاً بتشكيلات الأنظمة التي تغيرت، وما يتمخض عن الحركات التي تدور في بعضها الآخر. مع ذلك دعونا نسأل: هل هذه الثورات شبابية شعبية، أم أن هناك أيديولوجيات تقف خلفها؟ وإلى أي مدى تستطيع إعادة صياغة المنطقة العربية من جديد؟ وما ملامح الحراك الذي يحدث في السودان؟ للإجابة على هذه الأسئلة التقت «الأهرام اليوم» بالبروفيسور حسن مكي، في لقاء قدم خلاله قراءة لمستقبل المنطقة السياسي والفكري، فماذا قال؟ { الثورات الشعبية في بعض البلدان العربية، التي تبناها الشباب، أخضعها الناس إلى تفاسير مختلفة، فما هي قراءتك السياسية والاجتماعية والفكرية لها؟ - هؤلاء الشباب لم ينزلوا من القمر أو المريخ، ولم يأتوا من مقابر «أحمد شرفي»، وإنما خرجوا من رحم الشعب المصري، والتونسي، واليمني، والليبي، كذلك ليست كل حركة شباب ستؤدي إلى ثورة، وإلا لكان (الفيس بوك) أدى إلى ثورات في مكان صنعه. { إذن هناك اختلاف في تراكيب الأنظمة؟ نعم هناك اختلاف في تراكيب الأنظمة والبيئة، فعود الثقاب إذا ألقيته في العراء لا يولد ناراً، ولكن إذا أُلقيَ في بارود (أو زريبة حطب أو قش جاف) سيشتعل، لذلك هذه المجتمعات كانت ناضجة لقيام ثورات أصلاً، وأعتقد أن الثورة تأخرت فيها لأن حكامها عدلوا الدستور وهمشوا الشعوب، وبدأوا يفكرون في التوريث، وكانت هناك مجابهات، خصوصاً حول السياسة الخارجية لمصر، والسياسة الثقافية والدينية لتونس، ورأيناها حين نبذ الناس الجنسية المصرية، فأكبر عالم مصري «يوسف القرضاوي» أصبح قطرياً بعدما ضُيّق عليه، ورأى أن من الأحسن التخلي عن الجنسية المصرية، وهناك من ظلوا في السجن (30) عاماً، منهم عبود وطارق الزمر، اللذان أطلق سراحهما بالأمس وكانا في السجن منذ عام 1981م، وسيد قطب الذي اُغتيل، وعبد السلام فرج، وأيمن الظواهري الذي يحارب الآن في أفغانستان، وأسامة بن لادن الذي خرج مع القاعدة، كلهم رأوا النيران والقذائف التي ألقيت على غزة، وشعبها يحترق ويموت بينما كانت الإدارة المصرية تقيم الجدار الفولاذي حولها، والشعب كان رافضاً لهذه الأشياء، وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير. هذه الثورة كانت بمثابة طوفان تسونامي، لم يبق إلا أن يخرج من القمقم، وخرج، بدليل أن هذه الثورات لم تكن نزهة، أو أكل آيسكريم، وإنما مظاهرات قدمت عدداً من الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى، واعتصامات رأيناها في ميدان التحرير ضمت آلاف الشباب والعمال، ولولا تدخل الجيش في مصر لحصل ما حصل في ليبيا، لأن جيشها لم يكن موجوداً كمؤسسة. { كل الناس يسألون عن القائد الحقيقي لهذه الثورات، في كل من مصر وتونس واليمن وليبيا؟ - الناس يعتقدون أن هذه الثورات (ود حرام). هذا كلام غير صحيح، الأب هو هذا الجهاد الذي سبق وتحدثت عنه، والرفض الذي شاركت فيه مختلف الفئات ودفعت ثمنه الحركات الإسلامية، التي كانت ل(50) عاماً محرومة من تكوين حزب سياسي، وقُتل الكثير من شبابها. فمن تحت الأنقاض تكون رحم الثورة، فلم يظهر رحم الثورة لأنه كان تحت الأنقاض، وأطل الآن من تحت الأنقاض والركام والمعاناة والعذاب بعد أن تبلور داخل السجون والمنافي والمعتقلات، ومن الذين يحاربون في أفغانستان. { هل يمكننا القول إنه تبلور من ما يسمى بالتيار الإسلامي المعتدل؟ - منه ومن كل الناس. شباب الإنترنت، والعمال، والمستقلون كلهم أسهموا بشيء في تلقيح هذا الرحم. { لماذا وجدت التأييد من المجتمع الغربي طالما تتبناها حركات إسلامية؟ - المجتمع الغربي لم يؤيدها إلا بعد أن تبلورت، كان يتكلم عن حسني مبارك كحليف إستراتيجي ويلوّح بأن الخليفة هو عمر سليمان، وطالبوه بمنح السلطات لعمر سليمان، وكانوا يريدون انتقالاً منهجياً للسلطة، ولكنهم فوجئوا بما حدث ولم يكن أمامهم إلا أن يباركوا. { إلى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه الثورات في إحداث تحول جديد في منطقة الشرق الأوسط؟ - التحول واضح وكبير جداً على مستوى الشرق الأوسط كله، بدليل ما حدث في تونس وانتقل إلى مصر والبحرين وليبيا واليمن ودول الخليج، ولن يكون هناك عاصم إذا كانت البيئة مهيأة، فلا بد أن تتولد ردود أفعال. { مسألتا ليبيا واليمن لم يحدث فيهما جديد، فماذا تتوقع بشأنهما؟ ليبيا واليمن حققتا إنجازات، النظام الليبي قضى على الملكية، وحقق العدالة الاجتماعية، وفتح ليبيا على العالم الخارجي، ووسع حركة التعليم، فيما تمثلت إخفاقاته في الاستبداد السياسي، واستئثار القذافي وأسرته بالسلطة، والفوضى التي عمت ليبيا، فأي دارس للعلوم السياسية يجد أن ليبيا بلد به فوضى سياسية أكثر من كونها ثورة قدست رؤى الكتاب الأخضر، الذي كان مجرد كتاب، لكن أقيمت له معاهد دراسات، كأن القذافي جاء من عالم الغيب، لذلك من يعتقدون بإنجازاته ما زالوا معه، كما تمت برمجة العقول في ليبيا، وأعتقد أن ليبيا الآن في الرمق الأخير، ولن يطول عمر القذافي. { ما الدليل؟ - النظام استنفد أغراضه. في فترة من الفترات كان لصيقاً بالشعب الليبي، والآن أصبح عبئاً عليه، مثل «الحمل الفاسد في الرحم». { واليمن؟ - في اليمن علي عبد الله صالح كانت له إنجازات كبيرة، فهو أول من وضع لليمن دستورا،ً وأقام الوحدة اليمنية بين الجنوب والشمال، وأيضاً تم اكتشاف البترول في عهده، ورفع القدرات الاستهلاكية وسط الشعب اليمني. المجتمع اليمني منقسم بين زيدية وشوافعة، وبين قاعدة ووسطيين وعلمانيين، وبين وحدويين وانفصاليين، فاليمن فيها إشكاليات كبيرة وتدخلات دولية كبيرة، لذلك سيطول ليلها وأرجو ألا يطول. { بعض الناس يعتقد أن الذي يحدث مقدمة لنهضة شعبية كبرى في العالم العربي والإسلامي، ربما تقود في النهاية إلى تحرير إرادته؟ - الآن يوجد صراع كبير جداً داخل المجتمع المصري حول المشروع السياسي المصري، إلى أين يتجه شكل الحكم وشكل الدستور والحوار؟ ونفس الحوار سيحدث في تونس وليبيا واليمن والخليج، والسودان (لسه) سيكون هناك مخاض طويل. { ما توقعك لمستوى العلاقة بين مصر والسودان، لا سيما أن الرئيس السوداني أول رئيس عربي بادر بزيارة مصر؟ - حالياً القوى الموجودة في مصر متعاطفة جداً مع السودان، أولاً رئيس المجلس العسكري نفسه أصوله سودانية؛ محمد حسين طنطاوي، كذلك رئيس لجنة تعديل الدستور طارق البشري لصيق جداً بالسودان وزار السودان في السنوات الأخيرة أكثر من ثلاث مرات، وقدم محاضرات للشباب في المساجد، وحركة الإخوان المصرية لصيقة جداً بالسودان. { إذن، العلاقة ستشهد نقلة نوعية؟ - نعم، أعتقد أن اتفاقية الحريات الأربع ستمضي، والقيود التي كانت تكبل السودان ستفك، فالسوداني لن يحتاج إلى تأشيرة لدخول مصر، فهناك تحولات كبيرة ستحدث، والتوتر الحاصل في حلايب سينتهي، السودان سيصبح حليفاً لمصر. { كثير من الناس يرون أن السودان بأوضاعه المعقدة مهيأ لثورة شعبية. - السودان غير مهيأ لثورة، ليس لأنه محصن من الثورات ونظام الإنقاذ نظام ملائكي، ولكن لأن السودان «مشبع» بالثورات، السودان أكثر بلد تعرض لثورات في العشرين سنة الماضية، حصلت فيه ثورة الجنوب التي أدت إلى انفصاله، وحصلت ثورة دارفور ومات فيها عشرات الآلاف من الشباب، وهناك ثورات جهوية وعرقية بجبال النوبة والأنقسنا، وخليل دخل الخرطوم، «وناس الوسط» أيضاً شبعوا من الثورات، من الاعتصامات والمظاهرات والتصريحات المسمومة ضد العروبة والثقافة الإسلامية، مما خوّف التيار الوسطي أو المسار العام للشعب السوداني، حيث كانت هناك تهجمات على «ناس الخرطوم» وعلى المرأة المسلمة في الخرطوم، رغم ذلك أعتقد أن السودان غير محصن من الثورات، ستكون لديه ثوراته، وعبقريته الخاصة، لأنه بادر بها، فالشعوب الأخرى والإخوان في مصر تعلموا العمل السياسي من التجربة السودانية، وكذلك تونس والغرب، والآن السودان يدخل في تجربة جديدة ليحدث تصحيحاً في موازين الحكم، وأرجو أن تقوده ذات الحركة الإسلامية من داخل مواعينها وأوعيتها، ومن داخل المؤتمر الوطني، ويحدث تصحيح كبير لمسارات الحكم والدولة والقضايا التي تواجه الناس، كقضايا العطالة والبطالة والوضع الاقتصادي واختناقات الشباب والاكتئاب الحاصل. { هل ترى أن الحركة الإسلامية مهيأة أو مستعدة لهذا التصحيح؟ - أفتكر إن كانت مستعدة أو غير ذلك، فهذه من سنن الله ولن تجد لسنن الله تبديلاً، يعني سير تيار التغيير سيكون موجوداً، وستحدث حركة تغيير نوعي في التفكير وفي اتجاهات السلطة في الشهور القادمة. { كيف تقرأ زيارة الغنوشي إلى السودان؟ هل هي للمشاركة في مؤتمر القدس أم لها ما بعدها، لا سيما أنه طالب بإطلاق سراح الترابي؟ هذا حق مشروع، فالغنوشي يعتقد أنه كان يحمل يوماً ما جوازاً سودانياً، وكما يطالب في بريطانيا بإطلاق سراح المعتقلين البريطانيين، فمن باب أولى أن يطالب في السودان بذلك، وأنا شخصياً لا أعتقد أن هناك مبرراً كبيراً لوجود الترابي في السجن، ليس هناك نشاز في هذه المسألة، وكان كلما يأتي وفد من الحركات الإسلامية في العالم يقابل الترابي، حتى وهو داخل السجن. { تقييمك لمستوى المعارضة، هل فشلت المظاهرات بسبب ضعف المعارضة أم لعدم تجاوب الشعب معها؟ والشعب لماذا لم يتجاوب؟ - المعارضة أصبحت معارضة أُسر أكثر من تنظيمات، فدخول خليل إلى أم درمان كان أقوى كثيراً جداً من كل جهاد حزب الأمة الذي تحول إلى كومبارس لأسرة الصادق المهدي للأسف، فهم يقومون بدور كبير، وأنا معجب ببنات الصادق وبمثابرتهن ومبادرتهن، لكن هو صوت بدون صدى، صوت ضائع، لأن حزب الأمة لم يتجذر، كما أن القيادة العليا قيادات آفلة لها تاريخ وليس لديها مستقبل، فلا يمكن أن يكون عندك مستقبل وأنت تتجه نحو الثمانين، لذلك لا بد من تحفيز الشباب، المعارضة غير موجودة وسط الشباب، مع أن الشباب الذين تخرجوا في الجامعات في فترة الإنقاذ «ثورة التعليم العالي» أكثر من مليون تقريبا،ً فهي حركات معزولة عن تيارات الشباب. { لماذا برأيك؟ - لأنها تريد أن تعيد عجلة السلطة إلى عام 1965م أو 1956م بعد استقلال السودان، والآن الشباب اتجاهاتهم مختلفة، يكادون يتجاوزون حتى الإنقاذ الآن، إذا كانت الإنقاذ صنعت تجاوزاً في سنة 1989م وفتحت آفاق عشرات الآلآف من الشباب الإسلاميين، الآن هناك طفرة جديدة، هناك مئات الآلاف من الشباب يريدون تجاوزهم، فتيار التغيير أنت لا تصنعه بحبس حركة القيادة وحركة الإلهام والمعارضة في أسر، الآن صوت مناوي وعبد الواحد والصوت القادم من الشرق أصبح أقوى من الأصوات القادمة من الأسر، رغم أنها ليست أصواتاً قومية، وإنما تحركت في قنوات ضيقة «قنوات القبيلة... إلخ»، فالسودان الآن مهيأ لنداءات عميقة وملهمة يكون حسها قومياً ووطنياً وسودانياً يتجاوز القبيلة والأسرة. { بعض الناس يعتقد أن ثورات التغيير التي غيرت أنظمتها ستتجاوب مع النظام في السودان، فيما يرى آخرون غير ذلك، فما هو قولك؟ - واضح الآن أن الذين صنعوا الثورات أتوا إلى الخرطوم، فعصام العريان كان من قيادات الثورة في مصر، والغنوشي، وأهل اليمن الذين يقودون الثورات، و«ناس الزنداني» ما برحوا الخرطوم، والشباب في ليبيا موصولون بالخرطوم، ولذلك الخرطوم موصولة، ليست منعزلة، بل إنها المكان الوحيد الذي يخرج منه الأشخاص، سواء أكان الشخص إسلامياً أو ديمقراطياً أو قومياً عربياً أو اشتراكياً، فالمنطقة الوحيدة التي يخرج منها آمناً هي الخرطوم. { هل ذهاب القذافي سيؤثر في حل قضية دارفور؟ - كثيراً جداً لأن دارفور وتشاد كانتا فضاءً لحركة ليبيا، سلاح وتموين وإمدادات، وليبيا كانت دائماً متصلة بالشأن السوداني، وحتى الحكام الذين حكموا السودان تدرب كثير منهم في ليبيا. { الأدوار التي تقوم بها المؤسسات الإقليمية والدولية كيف تقيمها؟ - الجامعة العربية تحركت وطالبت مجلس الأمن بالتدخل لفرض حظر على الطيران الجوي الليبي، وهذا يتم لأول مرة، لكن الثورة الليبية لا بد أن تصنع نفسها وتقدم التضحيات، والليبيون لا بد أن يحترقوا، والسؤال: لماذا ظلوا (40) سنة صامتين؟ ولماذا استخف بهم القذافي؟ حتى وصفهم بأنهم (مقملين وجرذان)؟ وما زال بعضهم صامتاً، فالذي سيحرر ليبيا هو الذي سيحكم بديلاً للقذافي، فلو جاء حلف الأطلسي وحرر ليبيا فهو الذي سيحكمها. { هل ستصبح ليبيا عراقاً آخر؟ - إذا الغرب قضى على القذافي فهو الذي سيرثه، أما إذا الثورة الليبية بقوتها وتضحياتها ومعاناتها الذاتية وإطلالها من تحت الأنقاض أطاحت بالقذافي؛ عندئذ هي التي سترثه. { هل الدول الغربية مرعوبة مما يحدث في المنطقة العربية؟ وهل تراقب الوضع فعلاً بعمل أم ماذا؟ - المرعوبة هي إسرائيل، وهي المتنفذة والحاضرة والموجودة، لكن الغرب استعمر هذه المنطقة (200) سنة، ويعلم أنه يستطيع أن يستأنسها ويتواصل معها، خصوصاً أن كل إنسان في المنطقة يحلم بالباسبورت الأمريكي والبريطاني. { كيف تتعامل إسرائيل مع الوضع؟ - هي ستدير معركة صعبة جداً من الداخل ضد هذه الثورات، لأنها تعلم أنها إن لم تجتهد وتنهك هذه الحركات من الداخل وتطوعها، فستضطر إلى محاربتها ككيانات ودول، لذلك كل قدراتها ستسخرها لتضعف هذه الثورات، مثلما حدث في السودان، فصلت الجنوب، وهناك حركات دارفور والشرق، وما تزال. { الملامح العامة لما تبلور الآن في مصر وتونس، هل يمكن أن يكون عبئاً على الغرب أو أن يكون الغرب قادراً على التعامل معه؟ - من أين جاء الغنوشي وكل الذين يتكلمون؟ جاءوا من لندن وواشنطن وباريس، فهم يعرفون لغة الغرب، اللغة الوحيدة المفقودة لديهم هي اللغة الإسرائيلية، لأنها منطقة حمراء.