ما يميِّز أداء القسم الصحافي ب«الأهرام اليوم» هو الموضوعية والجُرأة في تناول قضايا الساعة التي تتعلّق بهموم الوطن وهموم الناس، ولا تنزلق بهم إلى قضايا انصرافية لا تهمهم في كثير أو قليل. في هذا الصدد قال لي صحافي مخضرم إن أكثر ما أثار إعجابه في الشهر الجاري تحقيقان، أحدهما بعنوان رئيس يقول: تدفُّق وحيازة السلاح غير المرخص بولاية الخرطوم. أما التحقيق الآخر فهو حول ارتفاع أسعار الدواء ودخوله أقبية السوق السوداء. وختم الصحافي المخضرم كلامه بسؤال: هل الجهات السياسية العُليا تحرص على قراءة مثل هذه التحقيقات؟، وإذا قرأتها هل تتفاعل معها بالخطوة السريعة وتوجِّه باتخاذ إجراءات عملية لا تنقصها المتابعة والمحاسبة، أم تدير ظهرها كأن ذلك من الأمور البسيطة التي لا تُشكِّل أهمية عاجلة؟. وفي اعتقادي أن الصحافي المخضرم معه حق، إذ كيف لا يقول ذلك وهو منذ وقوع عينيه على عناوين التحقيق وجد نفسه منجذباً إلى قراءته من الألف إلى الياء، ومنها: إدارة الجنائيات بولاية الخرطوم تقول إن بلاغات الأسلحة غير المشروعة تتركز بالأحياء الطرفية وشرطة الولاية تقول: (400%) نسبة زيادة السلاح المرخص بالولاية، واختصاصي اجتماع يقول: المواطن بالولاية لديه رغبة قوية في امتلاك السلاح للدفاع عن نفسه، واختصاصي علم النفس يقول: أحداث أم درمان وقرنق أدت إلى ترسُّبات في نفوس المواطنين. وبلا شك أن إثارة هذه القضية في هذا الوقت بالذات لم يكن قسم التحقيقات بالصحيفة يرمي من ورائها إعلام القارئ فقط، ولا حث الجهات الأمنية ومساندتها في اجتثاث ظاهرة السلاح غير المشروع فقط، وإنما كذلك رفع يقظة الجماهير إلى أقصى مدى، وقيامها بدورها في كشف أوكار الأسلحة غير المشروعة سواء على مستوى الحيازة الفردية، أم الجماعية. وبلا شك أن على رأس ضرورات القضاء السريع على ظاهرة السلاح غير المشروع، هو ما يشهده العالم العربي اليوم في عديد من دوله - بصورة غير مسبوقة - من اندلاع ثورات شعبية، وتدخلات أجنبية مدمرة قد لا تقف عند حد، هذا في وقت ما يزال فيه السودان يتعرّض لاشتباكات مسلحة في أبيي، وفي بعض مناطق دارفور، وليس مستبعداً أن يؤدي ترسيم الحدود الى اشتباكات مسلحة. ومُخطئ من يخالجه وهم بأن عاصمة البلاد القومية الخرطوم يمكن أن تبقى بمأمن من تأثيرات ما يجري في تلك الدول العربية، وهي عاصمة تكتظ - إلى حد مذهل - ليس فقط بأهلها ولكن أيضاً بالوافدين إليها عبر الحدود من بعض دول الجوار. ومن هنا، لابد مما ليس منه بُد، وهو أن ترتفع درجة اليقظة إلى أعلى ذروتها، لا إطلاق التصريحات الإنشائية هنا وهناك بلا رُويّة. أما التحقيق الآخر وهو ارتفاع أسعار الدواء - كما لاحظ الصحافي المخضرم - إنما يُشكِّل حقاً قضية عاجلة، وتكفي الإشارة هنا إلى ما جاء في ذلك التحقيق من عناوين على النحو التالي: الزيادة قُدِّرت ب(20% - 60%) وشملت الأدوية المنقذة للحياة. صيادلة يقولون: الزيادة فوق طاقة المرضى من ذوي الدخل المحدود جمعية حماية المُستهلك تقول: الدواء مسعَّر ولا وجود للرقابة على سوقه زيادة كبيرة بلا مبرر كما تقول جهات مسؤولة: ابتداء من المُسكِّنات والمضادات الحيوية الشريحة العريضة من المرضى هم من ذوي الدخل المحدود وقد أبدوا تذمُّرهم ولكن لا أُذن صاغية من الجهات الرقابية المختصة. ولا يملك المرء إلا أن يُحيّي مثل هذه التحقيقات وهي تُقدِّم النُّصح لكافة المسؤولين، على اختلاف مواقعهم، حتى لا تتراكم مشاكل الوطن والناس، وتصبح مثل جبال ومن العسير حلها بالتي هي أحسن. { محطات قصيرة: يوم الجمعة الماضية جاء في الصحيفة أن وزير المالية بولاية القضارف معتصم هارون قال إن وزارته ورثت تركة ديون تُقدّر ب(80) مليار جنيه من حكومة الولاية السابقة عبارة عن ديون شركات عاملة في مجال تنفيذ المشروعات التنموية. ليس هذا فقط، بل قال السيد الوزير أيضاً أن المحاصصة السياسية والمجاملات الاجتماعية والعادات والتقاليد من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تدني وترهُّل الخدمة المدنية بالولاية «يعني المال السائب». وسؤال بسيط: أليس عجز الولاية عن سداد ديون شركات عاملة في مجال تنفيذ المشروعات التنموية، يؤدي إلى عجز هذه الشركات عن الإيفاء برواتب العاملين التي تعتمد عليها أسرهم في معيشتها، حتى لا تموت جوعاً؟ وديننا الحنيف يدعو إلى إعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه. وسؤال أبسط: من المسؤول عن إضراب العاملين في أي مكان حينما لا يُعطى الأجير أجره فيتحول متسوِّلاً في الطرقات يريق ماء كرامته مجبراً؟ { الهجوم الضاري على مشروع النهضة الزراعية ينهال عليه من كل الاتجاهات، والسؤال: أليس في البلاد من الخبراء والعلماء من يتولون القيام بدراسة علمية في المجال الزراعي تخرج بخطة متكاملة لنهضة زراعية حقيقية، تجعل من السودان بالفعل سلة غذاء لأهله ولغيرهم في عالم أصبح الجوع واحداً من أكبر همومه واهتماماته واسم السودان تلهج به الألسن في كل المؤتمرات الدولية كسلة غذاء أكثر من غيره. والسودان يدور كالدرويش في صراعاته السياسية دون اتفاق على خير لصالح أهله الطيّبين. بحب الشعب والوطن يمكن أن يتحوّل السودان إلى جنة قطوفها دانية، لا يجوع فيها إنسان ولا يعرى، وتشيّع الفقر إلى مثواه الأخير. لماذا لا يذهب كل قرش من عائد البترول والذهب لتمويل النهضة الزراعية، لا ناطحات السحاب وأخواتها؟ اللهم أنزل رحمتك وحكمتك على أهل السودان، حتى لا تحوِّله الصراعات السياسية على السلطة إلى كارثة يصعب خمد جحميها الجهنمي.