{ من منهما تراني أحببت فعلاً، الحبيب الشاب الصغير الذي فتح عيني على حدائق المشاعر العذبة ثم طار بخفة عصفور وتركني وحيدة بين ظلال الفراغ، أم الرجل الناضج الكبير الذي احتواني بفكره الواسع ومحبته الهادئة وأعاد لي ثقتي بنفسي ومنحني حياة جديدة؟! إنهما شقيقان بأي حال، وأنا الآن أحترم زوجي «عبدالرحمن» المثقف الرصين الذي كان يعلم بعلاقتي مع أخيه الأصغر الذي لم يحترم وعوده لي، ورغم ذلك جاء يخطب ودي ويدعوني إلى القفز فوق حواجز الفشل والإحباط والندم والسير معه إلى شواطئ المستقبل، ولم يكن أمامي سوى القبول، ففيه كل ما تتمناه فتاة مثلي حزينة ومكسورة، لا سيما أنه بالأخير ابن عمي (ستري وغتاي)، حتى وإن كان أخوه قد «كشفني» للريح والبرد. { وقد تمت مراسم زواجنا كما يرام، وتصرف جميع أفراد العائلة بالكثير من السعادة والاحترام، فأنا لم ألعب خارج ملعبهم، كل ما هناك أنني انتقلت من مربع إلى آخر بإرادتي ولم أكن بيدقاً من بيادق الشطرنج تحركها أيدٍ خارجية. أما عبدالرحمن زوجي فقد كان في منتهى الرقي والحكمة والوعي كما عهدته دائماً يغدق علي المحبة والعطاء، ويجلس ليحادثني في كل شيء عن كل ما يجول في عقله الواسع، ويعلمني علمه الغزير بأخلاق (الجنتلمان). { وبناءً على ما تقدم، فقد سارت حياتنا بيسر وهدوء، ولم نلتفت أبداً إلى الوراء ولم يحاول زوجي يوماً أن يعبث في تفاصيل أيامي الماضية أيام كنت حبيبة أخيه، واتسمت حياتنا بالاحترام والتفاني في محاولة صادقة منّا لإنجاحها كما يجب. ولكن وآه من هذه (اللكن) شيء ما في عينيه، وفي بعض عبارات الموحية، وفي ارتعاشة أصابعه بين يدي، يجعلني غير مرتاحة بالكامل ويشعرني بالقلق، إنني أشعر به يتفرس في وجهي من جانبٍ خفي وكأنه يبحث في ملامحي عن بعض التفاصيل فأدعي عدم الانتباه. وأحياناً أشعر بالكلمات تتزاحم على شفتيه، وأنفاسه تتهدج، أو ألاحظ أنه يلاحق عباراتي ومفاهيمي وهو يفكفك كلماتي وكأنه يريد أن يعرب جملة غير مفيدة، جملة لم أنطق بها ولكنها تجول تحت لساني أو تحوم فوق أوهامه. { وما كان كل هذا البحث والتنقيب ليزعجني، فأنا أثق بنفسي وبمشاعري التي عاهدت الله عليها تجاه زوجي «عبدالرحمن»، كما أنني ودعت الماضي صادقة دون رجعة ولا يوجد في علاقتي السابقة بأخيه ما أخجل منه أو ما يمكن أن يقف حاجزاً بينه وبيني. ولكن أكثر ما يعذبني هو إحساسي بعذاب زوجي، ذلك العذاب الشفاف المكتوم بأعماقه، وتلك الأسئلة التي تجول بصدره ويستحي أن يفصح عنها لأنه يرى نفسه كبيراً على هذه الصغائر، ولا أعلم كيف أُريحه، كيف أثبت له أن تلك الحكاية القديمة لم تترك أثراً على جلدي فقد محاها كرمه معي وأزالها حبي الناضج له. فمنذ تعرفت إليه عن كثب واكتشفت شمائله ورحابة عقله وأدركت كم كنا نظلمه بخوفنا منه وتجنبنا إياه على اعتبار أنه دائماً كبير وعاقل وملتزم ووقور، منذ تلك اللحظة وأنا لا أرى في الدنيا سواه، وأشعر أن الله أنصفني جداً حين ساقتني أقداري إليه بعد نهاية قصتي الحمقاء مع أخيه الذي اختار هجري والهجرة خارج الوطن، ولا أدري كيف كنت سأتورط بالاقتران بذلك الطائر الذي لا يؤتمن؟ ولا كيف يمكن أن تنحل عقدة لساني وأقول كل هذا الكلام لزوجي، فأنا أخجل من حديث الماضي وأتمنى أن ينساه ولا يتوقف عنده طويلاً ولو بهذا الصمت الذي يتدثر في عينيه. { إنني أراه أمامي يتعذب، وهذا الجدار ينمو بيننا شيئاً فشيئاً وأنا أحمل معولي ولكني أخاف لو فكرت بهدمه أن تقودنا المواجهة إلى نتائج غير محمودة، أخشى أن أفك عقدة لساني فتنفك عقدة لسانه ويقودني إلى حيث اللارجوع، إنني أقرأ شكوكه في عينيه ولكني أحاول أن أكسب رهاني أمام نفسي بأن حناني يكفي لطرد الشك من ضلوعه، فأدعوا لي. «حكاية نسائية» تلويح: قلبي معك، ولكن ماذا لو عاد الطائر الطواف يوماً إلى العش؟!