ضعف في المناهح والوسائل، تردٍ في البيئة، ازدحام في الفصول، مشكلات ضاقت من حاضرها، وخافت من مستقبلها، فلم تجد بداً من الخروج من دائرة الصمت والسكون إلى دائرة العلن والإفصاح عن مكنونات استحوذت عليها مدلولات الوصف والتعبير، خرجت في مجملها بمصطلحات تقشعر لها الأبدان، وإن اختلف الاتفاق حول توصيفها من قبل الخبراء والمختصين وأهل الشأن إلا أن سرطاناً من الإهمال يهدد التعليم وملحاً حاذقاً يصعب تذوقه، ناهيك عن ابتلاعه، يغطي واقع التعليم في السودان يكاد ينتقل به إلى خانة «التأليم» لحاضر ومستقبل لما هو حق لكل إنسان بموجب قوانين وأعراف كل الدنيا. وكيل وزارة التعليم العام؛ د. المعتصم عبد الرحيم، والوزير السابق؛ الدكتور محمد أبو زيد مصطفى، والخبير التربوي؛ الدكتور عبدالباسط عبدالماجد، ووزير التعليم الأسبق؛ حامد محمد إبراهيم، وأصحاب الشأن من المتخصصين والخبراء بشأن التعليم في البلاد رسموا صورة مقطعية لقلب معلول يعد النبض الرئيس لحضارة أي أمة وتقدمها، وهم أنفسهم من شاركوا يوماً في وضع بصماتهم على المنهج والتعليم بأكمله، ها هم تكالبوا عليه بالانتقادات ودفع المساوي وذكر السيئات، وجدوا أنفسهم في المنتدى الذي نظمته المستشارية الإعلامية لرئاسة الجمهورية ومركز دراسات المستقبل، أمس الأول الثلاثاء، يشجبون ويستنكرون ويستنجدون ويهددون.. خرج وكيل الوزارة؛ المعتصم عبدالرحيم، من صمته، شارحاً لأزمة أقعدت بالتعليم في كل مراحله، بدءاً من رياض الأطفال، مروراً بمرحلة الأساس والثانوي ثم المغادرة إلى مرحلة الجامعة حديثاً، ما انفك يطلبه سراً وعلانية مع الجهات المسؤولة التي يعد هو أحد أركانها في وزارته التي يشغل منصب وكيلها، ليخرج أخيراً في انتقاداته خروج الوردة من أكمتها، يسانده فيه المكتوون بجمر قضية مسيرة التعليم والبحث عن خطة (إنقاذ)، بدلاً عن الغوص في براثن التدهور المريع أكثر مما هو عليه واقع التعليم الآن، ساقته عبارته للتباكي أو التحسر على رأس الرمح في العملية التعليمية والانتقاد لسياسات التعليم بأنها فتحت الباب حتى لمن ليس لديهم شهادات جامعية لامتهان التدريس، بجانب نقص في جوانب أخرى انداحت على المعلم في كل جوانب العملية، ليقفز بعدها إلى عكس واقع لا يقل مرارة عن سابقه، حيث قال إن البيئة المدرسية هي الأخرى واجهت ازدحاماً في المكان وأن أدوات ووسائل التعليم أصابها الضعف على أن تسع أعداد الطلاب التي تصل إلى 8 ملايين تلميذ وطفل وطالب ويافع في مدارس التعليم العام، بما يشكل خمس السودانيين، بجانب ضعف في المباني والتجهيزات التي تستوعب كل تلك الأعداد الكبيرة من الطلاب، ليقفز بعدها إلى ثالثة الأثافى وهي عملية التقويم التي تأسف على أنها لا تزال تتبع الطريقة التقليدية وأنها لم تتطور البتة ولم تنعكس على عملية التعليم لتقويم أداء الموجهين والطلاب والمعلمين وكل المتعلقات بالعملية التربوية، ليخلص إلى ما هو أخطر في الأمر بأن النظام التعليمي مكبل وأنه يجب إلغاء الامتحانات والتقويم لأنها للتقييس ولا تقوّم كل جوانب العملية التعليمية. ويُلمح في حديث الوكيل أنه ومنذ أحد عشر عاماً خلت على آخر مؤتمر عُقد للتعليم في العام 2000 عجزت الدولة عن اختلاق حل لأزمة التعليم، ومن باب العجز دخلت سياسات التعليم والسلم التعليمي والمنهج في تضارب مستمر، تفنن من وضعوا المنهج والسلم التعليمي في إضاعفه وإعلاله بعد أن تحولت المدارس الحكومية إلى مساحات من التكدس بالطلاب وبنوداً لفرض مزيد من الرسوم، بدعوى توفير مطلوبات الدراسة، وبعد أن كان التعليم قضية رائدة وقائدة وجد شأنها في 11 عاماً خلت منذ آخر مؤتمر عقد للتعليم في العام 2000 يتراجع شأنه بين العالمين، فجأر أصحاب الشأن فيه بالشكوى، يقولون ليس هذا بالتعليم الذي نعرف، ليعلن المعتصم عن عقد مؤتمر للتعليم في الربع الأخير من العام 2011 الحالي يشرح كل علات التعليم في البلاد. وكيل التعليم؛ المعتصم عبدالرحيم، ومن هم على مذهبه، ممن تولوا دفة قيادة التعليم والتشريع له واستصدار قراراته، مع اختلاف توصيفها بالسالبة أو الموجبة، وجد فيه الوزير السابق للتعليم بولاية الخرطوم؛ محمد الشيخ مدني، مدخلاً لتشريح الأزمة من باب آخر، حين قال إن المنهج الذي أقيم على أساس تدريسه في 280 يوماً لم يحدث أن أكملت المدارس تدريس 180 يوماً منه، وأن نسبة 15% من الوقت المقرر مهدرة، ولم يكن محمد الشيخ مدني ورفقاؤه في رحلة العمل التربوي أن تكون أقدارهم بهذا السخاء من الماضي المعتق والمصقول بتجارب المركز القومي للمناهج والبحث التربوي (بخت الرضا)، حيث ذكر بأن أفضل المعلمين هم من خرجتهم بخت الرضا وأفضل أسلوب لتدريس المعلم إمكانية نقل المعرفة وتدريس الطلاب هي الطريقة التي كانت تتبعها بخت الرضا، وطالب بأن تكون سياسة التعليم تنافسية وأن تثبت فكرة المدارس النموذجية ومراجعة سياسة القبول، حتى أن أستاذ الزراعة بجامعة الخرطوم أبوبكر علي الجوخ بدا متهكماً من فكرة أن يسمح لمن ليس لديهم عمل أو من يرغب في أداء الخدمة الوطنية فلا بأس في قضائها معلماً في إحدى المدارس، وقال إن أكبر خلل سياسي هو وضع التعليم في المستوى المحلي وعدم وضعه في قائمة الأولويات، مثل الأمن والشرطة والجيش. المجانية وغسل اليد.. الشعار الذي أعلنته الحكومة وأطلقت عليه اصطلاحاً مجانية التعليم، بدا براقاً ولا مجال للاستمرار فيه في إطار حفل تنكري، فلم يجد الوكيل المعتصم عبدالرحيم بداً من غسل يده من أحجية مجانية التعليم، مفصحاً عن الأرقام، يسانده في رأيه عدد من الخبراء وأهل الشأن من ذوي الصلة السابقين بسياسات ومراكز صنع القرار في التعليم بأن ما ينفقه المجتمع على التعليم العام والخاص يساوي سبعة أضعاف ما تخرجه الحكومة من ميزانيتها، ولم تنج الولايات التي أجمع الجميع على أن ترك أمر التعليم لها بمفردها، دون مساندة المركز، أضعف من العملية، ولأن المشهد كله قادم من اختناقات السياسة رمى الرجل بالكرة في ملعب الولايات وكال من الاتهامات لحكومات الولايات بأن المركز يخصص لها مئات الملايين من الجنيهات لدعم العملية التعليمية ولكن تعمد الولاية إلى تحويلها لأغراض أمنية ومرتبات أو أغراض سياسية. وشدد محمد الشيخ مدني على ضرورة إعادة النظر في مجانية التعليم لغير المقتدرين، وقال إن البيئة المدرسية لن تتحسن ما لم تجد مساهمات ممن حولها، وهو المنحى الذي سار فيه وأكد عليه وزير البيئة والسياحة الحالي الذي شغل منصباً وزارياً في وزارة التربية في السابق الدكتور محمد أبوزيد مصطفى بأن التعليم المجاني شعار سياسي، وأن كلفة التعليم في السنة أكبر من ميزانية الحكومة مجتمعة، بما في ذلك المؤسسات والوزارات، ودفع بها واضحة «التمويل الحكومي للتعليم مستحيل»، والوزير السابق حامد محمد إبراهيم معهم هو الآخر في الهم «شرق»، وبدا جاهراً بتململ كان مكتوماً لسنوات حتى أن شح الصرف على التعليم استوى اصطراعاً، وساق شح الكوادر الإدارية المدربة إلى مشكلات داخل الوزارة التي شغل فيها حامد في السابق منصب الوزير وخرج من دائرة الصمت إلى الجهر المسموع، حين قال إن أي ضعف في التعليم يعزى إلى التمويل وإن القرارات لا تنفذ، فقط تتخذ، وإن المواطن يتحمل أكثر مما يجب وإنه يصرف أكثر من الدولة وإن المعلم لأنه لا يجد في التعليم ما يجذبه أصبح غير مؤهل نفسياً، فهجرها إلى مهنة أخرى أو ساقته خطاه إلى خارج البلاد، وأشار إلى أن السودان في السابق كان يتلقى الدعم من المنظمات والدول إلا أنه بسبب عدم العلاقات معها سحبت دعمها عن السودان، ومنذ أكثر من 12 سنة لم يشارك السودان في مؤتمرات خارجية وإن شارك يعود خالي الوفاض ولا يجني فائدة. مجلس مهنة التعليم ولكن هل التفكير خارج السياق هرطقة لا تحتملها الحكومة أم لأشياء في نفس من بيدهم التشريع وتحريك مقاليد الأمور من الجهات العليا؟ جاء الرفض لمقترح تم الدفع به قبل خمس سنوات لإنشاء مجلس مهني للتربويين والتربية في السودان، أسوة بمثيلاته من المجالس لتنظيم الهندسة والطب والصيدلة والقانون، ولا يعلم أي قانون يحكم مفاصل اللعبة ليحرم الرجل الذي يعمل جاهداً لإقامة مجلس يسهم في التوعية ودفع التعليم في السودان ولإنقاذ ما تبقى من تعليم. وكما قال الفيتوري: «أقصى السقوط أن تسقط في الرضا»، بدأ الخبير التربوي الوزير السابق عبدالباسط عبدالماجد حديثه: «من المستحيل أن يكون هنالك رضا تام عن التعليم لأن القدرات مختلفة، والتعليم يمضي في الزيادة ونحو الأبعد وإنه لا بد من عدم الرضا لتحقيق مزيد من الرضا»، ووجد نظام السنوات الثماني في الأساس تأكيداً منه على عدم رضائه به وأنه اقتضته وقتها ظروف تتحدث عن الوفرة، حتى بدا متهكماً أن أحداً قال له: « ادرشوا وبعدين نعموا»، أي وسعوا التعليم ومن ثم انظروا لتطويره، وقال: «درشنا لكن التنعيم ما جاء»، حتى فلسفة الثماني سنوات للدراسة في الأساس التي وضعت وبوركت في عهد عبدالباسط عبدالماجد طالب الرجل وزارة التربية بإعادة النظر فيها والبحث عن لماذا يفقد الطالب 210 أيام والتي صممت على أساس 280 يوماً لسد النقص عن السنة التي حذفت. وعزا الرجل مكامن الضعف والانهيار في التعليم إلى تباعد مراجعة وتقويم التعليم والتوزيع المتبع في الولايات. إن الجميع يعلم أن التعليم يمضي إلى هذه الدرجة من الرحلة المعلولة وسياسات كاذبة خاطئة ويجري كل ذلك بصورة تامة وتحت غطاء السرية في حلقة يربط فيها بين مختلف رجالات الحكومة العمل بالمتاح حينما كانوا في مواقع القرار تاركين أمثولة أن «التعليم أبقى للأمة متى صح العزم».