تشرفت أمس الأول بحضور الحلقة المميزة لمنتدى أروقة باتحاد المصارف التي خصصت لمشاهدة النسخة الثانية لسلسلة (زاوية مشاترة) وهي معالجة تلفزيونية فيها الكثير من الإبداع والمبادرة الفنية التي تناقش الأوضاع السياسية والفنية والرياضية والاجتماعية والاقتصادية في إطار المزحة والفكاهة، وقد سعدت بالحديث عن النسخة بعد مشاهدتنا لها، وقد انحصر حديثي في عملية تطور حركة الفنون في بلادنا وأنها بدأت تستحوذ على مساحاتها عبر تجارب شبابنا دون اللجوء إلى التقليد واستجلاب القوالب من الخارج. والجديد في هذه النسخة أنها زحفت نحو السياسة وعالجت عدداً من الموضوعات بمهنية عالية، وقد نجح الشباب في هذه الجولة وعليهم تطوير المحاولة وتقديم الجديد لا سيما أن البرنامج يبث من العام إلى العام في رمضان. دار حوار جميل بيني وبين شاب يمتهن المحاماة ويباشرها بأفكار كبيرة ومعالجة فلسفية رائعة، تجعله دوماً ينظر للقضايا التي يباشر الدفاع أو الاتهام فيها بطريقة مغايرة لتلك المسلمات الخاطئة التي تشيع وسط عامة الناس، وأبرز ما استوقفني عبارته (الحقيقة القضائية) قد لا تكون هي الحقيقة (الحقيقية)، وبمعنى أشمل قد يحكم القاضي خطأ ويسلم الناس بأن هذه هي الحقيقة، ولذلك ليس كل ما يحكم به القاضي هو الحقيقة، وإنما حقيقة قضائية تقوم على بينات هي الأخرى تعجز عن إدراك حقيقة الأشياء، ولكنها تعبر عن نظام قضائي أنتجه الإنسان. صديقي عادل غانم هاتفني وهو يعبر جسر الدويم في طريقه إلى الخرطوم، وقد أجمل في مكالمته وعبّر بدقة متناهية عن حالة العبور، وكأني من كادقلي - حيث أنا - أعبر معه الجسر، فسعدت وأدركت ثمرة هذا الإنجاز الكبير لمدينة هي أعظم مدن السودان، ولكن غشيتها سنين طويلة من الإهمال حين غابت عن النخب الحاكمة حقيقتها، وعميق أسرارها، فحتى (الإنقاذ) هجرتها لعشرين عاماً ثم عادت أخيراً لتنصفها، وإنصاف الدويم لا يستقيم له ظل إلا إذا استكملت تنميتها من الألف إلى الياء وعادت مدينة العلم والنور تبعث ضياءها إلى آفاق الأرض وأطرافها. رجل من أهل اليمن تجمعه صدفة أكاد أجزم أنها مقدرة بالأستاذ عادل غانم في دولة الإمارات، وحين يدرك اليمني العالم الكبير أن (عادل) من أبناء الدويم يصرّ على اصطحاب عادل ورفاقه إلى منزله، وفي المنزل تنفجر مفاجأة هائلة والرجل اليمني يعرض صوراً فوتوغرافية له التقطها أيام دراسته ببخت الرضا في ستينيات القرن الماضي، وقد اندهش (عادل) ورفاقه لجمال الدويم وروعتها، حتى دوت المفاجأة مع إطلالة صورة فوتوغرافية لمكتبة غانم بالدويم، واليمني يقلّب في الكتب ويطالع. ويحدثهم اليمني بأن هذه المكتبة لرجل من الدويم يدعى غانم، وبصوت خرج من أعماق سحيقة في لحظة حاشدة من المشاعر يطلق عادل غانم كلمته لليمني (هو والدي)، فينظر إليه اليمني مذهولاً، ما بين عظمة عمنا (غانم) وهول المفاجأة والإحساس بأنها كانت مقدرة تكريماً لرجل خدم الثقافة وتخرجت من داخل مكتبته نجوم زواهر التقطت بداية من داخل هذه المكتبة العتيقة، وتكريماً لهذا اليمني العالم وهو يحتفظ بكل هذه السير العطرة وذكريات وحب للسودان لم تغادره أبداً، وتكريماً لعادل ابن هذا الرجل العظيم. اللهم ارحم عمنا غانم بقدر ما قدم للثقافة وللدويم وللسودان، وقد كانت مكتبته ديواناً يؤمه المئات من علماء أمتنا داخل وخارج السودان، وقد كان الرجل مكملاً لبخت الرضا ورافداً من روافدها.