يرجع الفضل والسبق في صناعة ظاهرة «الأفغان العرب» لبعض الدول العربية بتخطيط ورعاية أمريكية، كانت واشنطن وقتها تضع في أولويات أجندتها «مناهضة الامبراطورية السوفيتية»، فاستخدمت لهذا الغرض ما عرف لاحقاً ب(الأفغان العرب)، ولمّا انهار الاتحاد السوفيتي احتاجت واشنطن للتخلص من هذه الأدوات التي استنفدت أغراضها، فالقاعدة التي أصبحت لاحقاً سيفاً مسلطاً ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية هي في الأصل صناعة أمريكية، ليست واشنطن وحدها، بل إن الدول العربية نفسها رفضت تسلم هذه «البضاعة الأفغانية» بعد تحرير دولة أفغانستان من الاحتلال السوفيتي، فهذه بضاعتكم ردت إليكم، فهؤلاء الجنود المتطوعون بعد أن أدوا مهمتهم بامتياز كانت المكافأة التي تنتظرهم من دولهم هم هي تجريدهم من جنسياتهم وأوطانهم، لما تسامع هؤلاء الأخوة بأن هنالك دولة في القرن الأفريقي يديرها الدكتور حسن الترابي قد أصبحت «دار هجرة» للمسلمين وملاذاً للمطرودين، فهبط علينا ذات صيف شباب «بيض الوجوه كأنهم رضعوا على ينابيع القمر»، وكان من بين هؤلاء الشباب الشيخ أسامة بن لادن، فلقد جردته دولته من جنسيتها وقالت «إنه عمل غير صالح»، يحكي لي أحد الإخوان ممن كلفوا وقتها بترتيب (نزلة) هؤلاء الإخوان، قال كنت أجوب بهم تلك الأحياء الغنية لهذا الغرض، وكانوا يتحركون بأسطول من السيارات الفارهة المثيرة لانتباه المارة، يقول الرجل، قد سألني بعض الجيران عن ماهية هؤلاء الناس، فقلت إنهم «الإخوان المهاجرون»، فرد أحدهم بقوله: «إذا كان ديل مهاجريكم فكيف سيكون حال أنصاركم»؟! إذن دخل أسامة بن لادن السودان عام 1992م «مستثمراً فكرياً» في بادئ الأمر، والإنقاذ يومئذ، كما وصفها السيد الصادق المهدي «كالحصان المجنون»، فقد طُلب يومئذ من الإمام المهدي أن يشارك في الحكومة فقال: «هؤلاء يركبون أحصنة مجنونة ولا يمكن أن أكون رديفهم»، فلقد دخلت الإنقاذ يومئذ في حرب على طول آلاف الكيلومترات تمتد ما بين البحيرات والاستوائية إلى سفوح البحر الأحمر، العالم كله يومئذ كان يتفرج على شاشاتنا «الطاهرة» التي تحتشد بالميري وقطع الكلاشنكوف التي يحملها الطلاب والزراع والصناع، فبدا السودان كما لو أنه معسكر كبير، لم نكتف بتجنيد أخوات نسيبة وإخوان أسامة، بل حتى الزي المدرسي كان عبارة عن (كاكي)، لا صوت يعلو على صوت المعركة، فنحن في حالة حرب مع الجميع، لم تسعنا جبهات أحراش الجنوب ودول الجوار على سعتها، فقد قال قائلنا يومها «أمريكا روسيا قد دنا عذابها»، ومن طرائف تلك الأيام، أن قرية صغيرة ذات بأس شديد تدعي مبيريكة قد خرجت ذات صولة ونفرة عن بكرة أبيها، خرجت على رؤوس البصات واللواري لمقابلة البشير بمدينة بربر وهي تشهر لافتة تقول «مبيريكة تهدد أمريكا»، في تلك الفترة أطلق الراحل الأديب السوداني الطيب صالح مقولته الشهيرة تلك «من أين أتى هؤلاء؟». واكتمل شرف ثورتنا، أو قل (كملنا الناقصة) بأن استضفنا أخطر رجل في العالم، هو الشيخ الشهيد أسامة بن لادن، لم تملك واشنطن إلا أن تضعنا على صدر لائحتها الشهيرة التي تطلق عليها «قائمة الدول التي ترعى الإرهاب». رأيت أن أقول، وقناة العربية تحتفل بمقتل أسامة بن لادن على طريقتها «صناعة الموت»، إن لنا أسهماً هائلة في الشركة أو قل في المشروع الذي يسمى «أسامة بن لادن»، فلقد مر الرجل من هنا، لما جرده الآخرون من الهوية والانتماء كانت الخرطوم بمثابة «الوطن البديل»، الخرطوم هي أول عاصمة نهضت بفريضة صلاة الغائب، قبل أن تفيق «أبت أباد» من صدمتها. مخرج.. من يفهم من قناة (العبرية)، أن المشاريع النهضوية، اتفقنا حول وسائلها أو اختلفنا، هي مشاريع للحياة وليست للموت. وللحديث بقية..