حياة الجاسوسية تلهب رغبة الغربيين والإسرائيليين وتصنع منهم أبطالاً وتنسج منهم أساطير من الحكايات والروايات، وتنشر من مذكرات الجواسيس عشرات الكتب وتنتج عشرات الأفلام، وتحتفي بهذه الفئة من الجواسيس بعد انتهاء فترة خدمتهم في سلك الجاسوسية باعتبارهم أبطالاً قوميين يقضون بقية حياتهم في ترف ودعة وبحر من المعنويات. هذه الحياة المجنونة التي تغري أبناء وبنات الغرب تهدد أوضاعنا وترمي بهم داخل شؤوننا وساحاتنا في الشرق ودارفور والجنوب الموبؤ بهم الآن وجنوب كردفان، وما أخشاه تغلغل هؤلاء الجواسيس في كل شبر من هذا البلد شمالاً ووسطاً، لا سيما وأن سياسة التغلغل وإنتاج الأزمات يمارسونها على نار هادئة قد تتمدد لعشرات السنوات. تاريخ الجواسيس في الغرب يكشف عن أساطير ومعجزات لا تقل إثارة وخطورة عن مجازفات صعود الجبال الشاهقة التي تغري حتى الكهول منهم، وقد نشرت صحافة هذا الأسبوع أن كهلاً يبلغ من العمر (82) سنة مات متأثراً بجراح إثر سقوطه من أحد الجبال أثناء عملية تسلق يحاول عبرها أن يسجل رقماً قياسياً لكهل في سنه، وبذات الطريقة سجل جواسيس غربيون أرقاماً قياسية في التجسس اخترقوا بها مواقع منيعة وحصينة ومستحيلة، ومن أشهر جواسيسهم البريطاني (كيم فيلبي) الذي خدم المخابرات الروسية ثلاثين عاماً، وكان أحد المرشحين المتوقعين لشغل منصب رئيس المخابرات البريطانية، وكذلك اخترق (جورج سورجي) السفارة الألمانية في طوكيو لصالح الروس وظل أحد صناع القرار، وبفضله جنّب السوفيت الهجوم الياباني على الشواطئ الشرقية للاتحاد السوفيتي ليتزامن مع الهجوم الألماني على الغرب السوفيتي مما ساعد الروس في التغلب على الألمان وكسر شوكتهم وهزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية، وغير ذلك الكثير من الحكايات والروايات الخيالية في دنيا التجسس. الجاسوسية خطر عظيم يجابه بلادنا وتكمن خطورته في غياب أثره وحياة الظلام التي يتمدد فيها وحجب كافة تحركاته وضرباته عن أعين ضحاياه، ويتصاعد مفعوله في حركة بطيئة ولا تنفذ سمومه إلا بعد أن يحيط بالكامل بضحيته ويبدأ الانهيار تدريجياً وكأن كل شيء يتم بصورة طبيعية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك تغلغل إسرائيل في أزمة دارفور وهي لا تملك سفارة في السودان ولا يصرح قادتها في شأن السودان إلا نادراً وبعيداً عن أزماتنا؛ ولكن في حقيقة الأمر أن إسرائيل وعبر الجاسوسية هي من أبرز المؤثرين في أزمة دارفور، وأخيراً تحدث قادتها وكشفوا عن دورهم في الأزمة وهو دور يشارك فيه المجتمع الإسرائيلي العالمي برمته. الجاسوسية الآن أقرب من كل مواطن سوداني، أقرب مما نتخيل وقد يكون هناك من يعمل لصالحها دون أن يدري وقد حدث للمصريين من خلال ونساتهم العادية مع الأجانب أو مع بعض أقاربهم أو معارفهم المجندين كجواسيس لصالح العدو الإسرائيلي، والمتابع لحركة الكشف عن شبكات تجسس تعمل لصالح إسرائيل في عدد من الدول العربية يستنتج كثرتها، وقد كان أول كشف لشبكة تجسس في العالم العربي تعمل لصالح إسرائيل في 27/1/1969م بالعراق وقد تم إعدامهم ومن يومها بدأ تتابع كشف شبكات التجسس. إسرائيل تقول في حالة السودان وبلسان قادتها إنه دولة تتمتع بموارد هائلة إن تركوها على حالها فإنها ستضيف إلى قوة العالم العربي إضافات نوعية وستنافس العراق والسعودية ومصر كدول مؤثرة وكبيرة في الساحة العربية، ولذلك هم يعملون لشغلها بأزمات متتابعة حتى لا تتفرغ لبناء نفسها. وحسب قراءتي فإن إسرائيل تخطط لإنتاج أزمات في الشرق وفي الشمال على خلفية (مملكة كوش) وستعمل على استمرار الأزمة في دارفور وربما العمل لفصل دارفور كدولة ثانية تنفصل عن السودان بعد دولة جنوب السودان، كما أنها تعمل على تطوير أفكارها بخصوص جنوب كردفان والنيل الأزرق؛ وقد يصل عدد الدول المقترحة من جسد السودان إلى خمس دول، بالإضافة إلى السادسة التى ستكون شراكة بين شمال السودان وصعيد مصر. كل هذا التخطيط الإستراتيجى الإسرائيلى يهدف إلى قيام إسرائيل الكبرى، ولذلك بتنا وجهاً لوجه مع إسرائيل والآن جواسيسها كما قال البروفيسور حسن مكي، موجودون داخل السودان خلف أنشطة استثمارية أو إعلامية أو من داخل جسم المنظمات العاملة بالبلاد أياً كان مجال عملها، وهي في الخارج تطبق على المتمردين والمعارضين فتورطهم وتصنع منهم جواسيس يلعبون أدواراً في صراعاتنا وغداً سنكتشف أن أبناءنا مجرد دمى. يجب أن يرتفع الحس الأمني وأن تنهض الروح الوطنية وقبل كل ذلك معرفة حجم المعركة وظروفها وتحدياتها..