يتداول عدد من الكُتَّاب في الصحف قضية الفساد في الدولة التي يُطلقون عبرها حملة من الاتهامات ودخاناً كثيفاً من ظلال الشك توجَّه بصورة إيحائية تُطلق وابلاً كثيفاً من الرِّيَب والشكوك في الهواء يتجه دوي رعودها نحو الإنقاذ وبعض قياداتها، وهذه الحملة هي حملة قديمة متجددة ساهمت في انتشارها عدة عوامل وأسباب يعتبر أولها هو تهاون الحكومة وإعلامها الضعيف المتهازل وهو السبب الرئيس في انتشارها وتشتُّت شظاياها، حيث أن إعلام الحكومة الساهي والمشغول «بنجوم الغد والمسلسلات» في زمن حروب الإعلام الاستخبارية لا يجد من الوقت ولا يملك من الذكاء ما يؤهله للتصدي لحملات الفساد التي تُطلق في الهواء حتى عمّ دخانها كل الفراغات، بل إن إعلام الحكومة الساهي والكسيح يقف عاجزاً حتى عندما تتحرك بعض مؤسسات الدولة لدحض دعاوى الفساد، يقف ببلاهة يُحسد عليها كما حدث عندما تحرّك مجلس الوزراء إبّان قضية النفايات الإلكترونية التي سكب فيها عدد من الصحافيين من أصحاب الغرض، سكبوا فيها مِداداً كثيراً حينما اتهموا جهات حكومية ووزراء بأنهم استوردوا بغرض التجارة كميات من الأجهزة الإلكترونية المستعملة والفاسدة ذات الأثر الضار على الإنسان وعلى البيئة ليتضح لاحقاً بعد أن حُوِّلت القضية للقضاء أن القضية كلها كانت قضية مُفبركة صاغها وصنعها خيال مريض لدكتور مزور ادّعى أنه خبير في النفايات الإلكترونية وابتلعها صحافيو (المديدة حرَّقتني) الذين أقاموا بسببها المناحات وصيوانات العزاء لتلطيخ سمعة الحكومة ونزاهتها المسفوحتان على ذابح الإعلام، و«الدكتور الكاذب» الذي اتضح لاحقاً أنه لا يحمل أصلاً شهادة دكتوراه حتى في (صنع الطعمية) الذي قضى عقوبته مسجوناً بعد أن كسب مجلس الوزراء القضية ضده بإشانة السمعة. كان يمكن أن تكون هذه القضية مدخلاً جيداً لإعلام الحكومة المتبلِّد و (المترف) لو كان يمتلك بعضاً من الذكاء والقليل من الجرأة في تتبُّع ما يُشاع حول قضايا الفساد التي تُنثر في الهواء الطلق، كما ساهم عامل آخر في انتشار دعاوى الفساد وهو أن عدداً من مؤسسات الدولة الساهية التي تُتهم يومياً بالفساد تقف عاجزة وبلهاء كأن الأمر لا يعنيها وهذا السكوت هو الذي يُثير الشكوك ويراكم الرِّيَب ويُكسب بعض المتسكعين الذين يتكسَّبون من إطلاق دخان الفساد مزيداً من الجرأة من التحدي، لأن مؤسساتنا الخانعة لو تعاملت مع صحافيي النميمة كما تعامل المرحوم الدكتور مجذوب الخليفة حينما كان والياً للخرطوم واتهمته إحدى الصحافيات بأنه يمارس الفساد ويُبدد أموال ولاية الخرطوم على أهله ومنسوبي ولايته الأم «نهر النيل» تحرّك الدكتور مجذوب مباشرة إلى الشرطة وفتح بلاغاً بإشانة السمعة وطالب بتعويض (900) مليون جنيه كرد شرف وتحوّل البلاغ إلى المحكمة التي حكمت له بعد أن اتضح أن ما كتبته الصحافية مجرد كذب وفبركة واتهامات فاقدة للإثبات والدليل، وبعد أن عجزت الصحافية عن دفع مبلغ التعويض أمرت المحكمة بسجنها ومصادرة الصحيفة ومصادرة كل أصولها لصالح المدعي المتهم بالفساد الدكتور مجذوب الخليفة، ولكن دكتور مجذوب السياسي المحنَّك أعلن العفو وتنازل عن حقه في التعويض ليُعطي كل صحافيي الفتنة درساً بليغاً في الأخلاق ولكن بعد أن برّأ ساحته وساحة الحكومة من تهمة الفساد وأثبت أن نخوة الإنقاذ تعلو دائماً فوق شتائم النساء، وأنا أظن أن مثل هذه الجرأة هي الوحيدة التي يمكن أن (تفقع عين) مروجي الفتنة والكذب وأنا لا أدري ماذا يفعل الوزير الفطن الدكتور محمد مختار في مجلس الوزراء وبماذا هو مشغول والصحف تكيل يومياً تُهم الفساد المعمم ضد الحكومة وضد منسوبيها، ومعروف أن الحكومة هي جسم اعتباري يمتلك كامل حق التقاضي ويمثله في ذلك مجلس الوزراء وأي اتهام عام هو اتهام موجَّه لكل الحكومة وبالتالي يمكن لمجلس الوزراء تحريك اجراءات فورية ضد كل من يكتب كلاماً معمماً ويتهم الحكومة بالفساد، فو الله إن تحريك مثل هذه الاجراءات وبذات الجرأة التي حُرّكت بها قضية النفايات الإلكترونية وبذات الحسم الذي حُرِّكت به قضية مجذوب الخليفة كان ذلك سيجعل كل «فئران الاستعمار الجديد» من موظفي العلاقات العامة لتبييض وجه الحملة الصهيونية ضد السودان يدخلون إلى جحورهم، مع ملاحظة أن تحريك اجراءات قانونية ضد هذه الاتهامات يُكسب الدولة (مرتين) مرة حينما تُبرئ الدولة ساحتها وتلقم من يشككون في نزاهتها حجراً، ومرة ثانية حينما تكون هذه الجرأة والإتجاه نحو الشرطة والقضاء نتيجتها إثبات بعض مظاهر الفساد وبالتالي تكون الدولة قد ضربت بعض أوكار الفساد التي قد تكون خافية عليها وعندها ستكون الدولة قد أثبتت جديتها في محاربة الفساد؟ لأن أية دولة مهما كانت درجة نقائها وصفائها لا تخلو من بعض المفسدين وأصحاب الهوى ومثل هؤلاء المفسدين هم الذين يسيئون للإنقاذ وهم الذين يستند عليهم بعض كُتَّاب الفتنة ليتخذون منهم متكأً لتعميم اتهاماتهم لتشمل كل تجربة الإنقاذ ورموزها، وأنا هنا أذكر بعض كُتَّاب اليسار الذين يحاولون بصورة مستمرة إظهار قيادات الإسلاميين كأنهم كانوا مجموعة من الفقراء والمساكين الذين كانوا يتكففون الناس إلحافاً ثم جاءت الإنقاذ وتحولوا إلى أصحاب أموال وعمارات، أذكِّر اليساريين بحملتهم القديمة ضد الإسلاميين خلال فترة نميري وفترة الديمقراطية قبل قيام الإنقاذ عندما كان إعلامهم وصحفهم تنشر حملات التشويه ضد الشركات والبنوك الإسلامية التي كانوا يُطلقون عليها (بنوك العيش) وكانوا يطلقون على أثرياء الإسلاميين (الطفيليين) حيث كانت حملتهم تُركِّز على أن الإسلاميين هم مجموعة من أصحاب الأموال المترفين الذين يتقلبون في النعماء والبذخ، واليساريون يعلمون يقيناً أن الثراء عند بعض الإسلاميين وبعض مؤسساتهم ليس عرضاً جديداً أحدثته الإنقاذ، واليساريون المشاؤون بالنميمة الذين يلمزون الإنقاذ بتقارير المراجع العام ويحاولون إعطاء الإيحاء بأن الفساد في الإنقاذ هو فساد مؤسسي ترعاه وتتبناه الدولة، وفي ذات الوقت يتناسون أن المراجع العام عينته الإنقاذ وتبعيته لرئاسة الجمهورية حتى تعطي تقاريره قوة فهل يعقل أن تكون الدولة راعية للفساد وتعين مراجعاً عاماً ليشهد على رعايتها للفساد، لذلك فإن وجود المراجع العام ورعاية الدولة لتقاريره والدفع بها نحو المجلس الوطني هو أكبر دليل على حسن نية ونزاهة الإنقاذ، وليعلم اليساريون جيداً إن أكبر نجاح حققه الإسلاميون كان نجاحهم في مجال الاقتصاد والمال لأن الحركة الإسلامية تنبّهت منذ زمن بعيد إلى أهمية امتلاك المال في تحرير القرار ولو لم يفعل الإسلاميون هذا لأصبحوا مثل كل السياسين الذي يتسوَّلون الآن على أعتاب المنظمات المشبوهة يتوسلون صدقات وهبات الخضوع، وبسبب هذا النجاح المالي الموروث من حر مال الحركة الإسلامية وأغنيائها استطاعت الإنقاذ أن تتجاوز حالة الانهيار الاقتصادي الذي توقعه المعارضون للإنقاذ في سنواتها الأولى حينما كانت ميزانية الدولة من العملة الصعبة لا تتجاوز (50) ألف دولار وهو ما جعل التجمع الوطني الذي كان يقوده السيد (زلوط) جعله يبشر العالم الاستعماري أن الإنقاذ لن تصمد أكثر من بضعة شهور بسبب خواء ميزانية الدولة، ولكن بسبب أصحاب الأموال من الإسلاميين تحرر قرار تجميد البترول السوداني حينما تصدى رجل الأعمال محمد عبدالله جار النبي لدفع (50) مليون دولار قيمة التعويض لشركة شيفرون الأمريكية حتى تتنازل عن حق امتياز التنقيب عن البترول السوداني فعل هذا ابن السودان محمد عبدالله جار النبي حينما كانت ميزانية الدولة التي تركها رئيسها الصادق المهدي خاوية على عروشها، وأنا أطلب من كُتّاب اليسار أن يتتبعوا كل الإسلاميين الذين كانوا أصحاب شركات كبرى وأصحاب أموال مليونية دولارية قبل الإنقاذ كيف حالهم الآن بعد أن أفقرتهم الإنقاذ وخرجوا من السوق لأن الإنقاذ في بداية عهدها أخذت أموالهم لتسند بها الدولة، وأطلب منهم أن يراجعوا كل الشركات الكبرى واتحاد أصحاب العمل ليقارنوا من هم أصحاب الأموال ومن هم أصحاب الشركات وما هي انتماءاتهم وإلى أي الأسر ينتمون. وختاماً أرجو ألا تفهم الحكومة أن هذا المقال يندرج تحت تبرئتها بصورة مطلقة من بعض مظاهر الفساد لأن هناك فعلاً من أهل الحكومة من يأتي لها ليقول (هذا لكم وهذا أُهدي لي) أي ممن يخلطون عملاً صالحاً بآخر سيء، خاصة من بعض صغار وكبار الموظفين الذين يحيطون ببعض المسؤولين ويدفعونهم دفعاً عمداً أو سهواً للوقوع في الحرام وأكل الشبهات لذلك يصبح واجب الحكومة أن تضرب بكل قوة وبكل حزم على أيدي مجموعة (هذا لي) لأن عدم التعامل الحاسم والسريع مع مثل هذه المجموعات هو ما يظهر الحكومة كأنها متواطئة مع الفساد والحكومة في حاجة ماسة لاستخدام فقه سيدنا عمر رضي الله عنه الذي كان يحاسب وزراءه وعماله حتى على الشبهات.