{ الأخ الحبيب الأستاذ الهندي عز الدين.. تحية واحتراماً.. فليعتبره البعض «كسير تلج» لأن الثلج مطلوب هذه الأيام مع الحرّاية التي بدأت تلفح الناس الغلابى.. وأرتال من الباعة في الأسواق الذين يكدحون وهجير الشمس يلفح وجوههم السمراء ويتسلون بنداءاتهم المنغّمة التي تنطلق من حناجرهم وبعضها يضاهي عدداً مهولاً من المغنين والمغنيات الذين واللائي امتلأت بهم إذاعات الFM والإذاعات المرئية والمسموعة.. { أعود للتلج يا صديقي، وأقولها، والعبد لله صحفي محترف منذ العام 1986م حينما كنت سكرتير تحرير صحيفة «صوت الشارع» التي كان يمتلكها الراحل المقيم الأستاذ حسن عز الدين - يرحمه الله - والأستاذ محمد دسوقي - أمدّ الله في عمره - وقد كانت وقتها أكثر الصحف توزيعاً.. أقول إن صحيفة (الأهرام) محترمة، تحترم قراءها على اختلاف تصنيفاتهم وثقافاتهم وأعمارهم وانتماءاتهم.. فهي صادقة.. ملتزمة تضم عدداً من الزملاء المحترفين الذين يدركون معنى أن تكون صحفياً. و(الأهرام) لا تجنح إلى الإثارة الرخيصة وتحترم شرف الكلمة والحرف وتراعي التنوع في طرحها للمواضيع، فيجد كافة قرائها ما يروقهم.. وتنأى عن سقط القول وتصفية الحسابات، ولها القدرة على قول الحق، ولها قدر وافر من ثقافة الاعتذار والرجوع إلى الحق إن أخطأت دون قصد وبحسن نيّة، ولا تكتب خبراً دون تحرِّي المصدر الصادق في إيلاء الخبر، وفوق ذلك كله (الأهرام) تتمتع ببنيان متناسق وتصميم يريح أعين القارئ «وحاجات تانية حامياني»، لذلك استحقت هذه الحروف التي أخطها في الهواء الطلق بالقرب من «ست شاي» محترمة تقرأ (الأهرام) بحي العرضة بالقرب من أصدقائي الميكانيكية وغاسلي العربات، و«سيدة» أم العيال التي تقدم أشهى أطباق الطعام السوداني من الكسرة بالتقليّة والنعيميّة والمرس وملاح الشرموط الأخضر بالعصيدة والشطّة الحارقة بالليمون والبصل الأبيض، و«سيدة» هذه تستحق التكريم وهي الولود أم العيال الذكور الذين يلتفون حولها يقدمون يد العون في جمع الصحون وغسلها بعد رجوعهم من المدارس.. و«سيدة» سيدة بكل ما تحمل هذه الكلمة، فهي «ضكرانة» كأهل السودان الذين يأبون الكسب الحرام ويكرمون الضيف ويؤمنون بأن المال مال الله ومنه حق للسائل والمحروم.. { والله العظيم - أخي الهندي - أحب هؤلاء البسطاء من أهل بلادي، ومنهم أتعلم كل يوم علماً لم تعطني إياه الكتب أو منتديات الصفوة من القوم، وهؤلاء يعيدون توازني الروحي والنفسي وهم يحبونك بصدق، إذا تيقنوا من أنك تبادلهم ذلك الحب الصادق.. أدعوك إلى صحن سلطة تكلفته عشرة جنيهات فقط، غني بالبروتين النباتي والحيواني وشيء من الحديد والكالسيوم والفايتمينات.. ووصفة هذا الصحن الذي يشبع عدداً مقدراً من البشر هي: كيلوجرامان من الطماطم الطازجة وجرجير وبصل أخضر وجزر ودكوة وجبنة وزيت سمسم وعيش بلدي حار من طابونه بلدي، لا تغش العجين بالمواد الكيماوية الضارة، ونحبس بشاي بالنعناع.. ولمّا يكون معانا ضيف نصنع له عصير الليمون.. رطل سكر وربع لوح ثلج وخشبة نظيفة يذوب بها العصير في كورة ألمنيوم، وتدور الكورة بيننا حتى يرتوي الجميع!! وتقول ليْ بيرقر وهوت دوق وتيك أوي وهمبيرغر!! وأقرأ لهم بعض أشعار الشاعر الكبير محمود درويش - يرحمه الله: أجمل الأشياء.. أن نشرب شاياً في المساء.. وعن الأطفال نحكي.. وإذا جعنا تقاسمنا الرغيف.. وتهمس فاطمة ست الشاي: يا سلام ده كلام حلو!! قول لينا شعرك.. وأقرأ لهم ولهن، ويطرحون آراءهم في قصائدي، ومنهم أستلهم بعض مفرداتي، وهذا ما قاله الشاعر الكبير نزار قباني - يرحمه الله - حينما سأله بعض النقاد: كيف استطاعت دواوينك أن تجد هذا الرواج والقبول على امتداد الوطن العربي؟! رد قائلاً: ببساطة أنا ألتقط قصائدي من عموم الناس، لا سيما البسطاء، وأعيدها إليهم بعد تنقيحها، وأسكب عطري وأعيدها إليهم فيحتفون بها.. { أعود إلى زقاق العرضة، وأنا بين أصدقائي يرنّ هاتفي المزعج فأرد على فنانة ناشئة تود الاشتراك في مهرجان غنائي موسيقي يجري الإعداد له هذه الأيام تحت عنوان «جديد الأغنيات» تحت شعار «فلنغنِّ للجمال»، وشرحت شروط المسابقة، فشرعت على الفور في نظم أغنية في كرتونة إسبير طلمبة عربة، ولحظة انتهائي سألني صديقي أبو طويلة، وهذه كنيته واسمه متوكل، وهو شاب في عنفوان شبابه، يبدأ يومه قبل شروق كل يوم يبتغي من الله الرزق الحلال، في هذا الزقاق الجميل الذي ينضح بالحياة والحب.. وأبو طويلة يجيد العديد من الأعمال، فهو متخصص في «كوافير» العربات.. تعطيه عربتك متسخة مليئة بالأتربة فيقضي سحابة يومه يعالج فيها ميكانيكياً وكهربائياً ويعيدها مجلوّة نظيفة تلمع، ويقضي اليوم ويقنع بما يجود به الله، فيشتري لبن صغاره وكيلو باسطة ويركب عائداً إلى منزل الأسرة بحي ود البشير أقصى مدينة أمبدة.. أبو طويلة طلب مني قراءة النص الجديد، وهذه فرصة لأنشره عبر (الأهرام).. وعنوانها «جمال الروح»: ما بعشق الأبدان بعشق جمال الروح إيه يبقى يا إنسان لمن جمالك يروح؟! مهما يطول عمرك قضّيهو في الأفراح اهتم بي أمرك وخليك ضي مصباح خليك تملّي جميل وازرع حياتك خير الحب يجِي يغمرك في كل ليل وصباح ٭٭ خليك محب للناس الناس يحبوك شيلهم مع الأنفاس في الود يودّوك تتهنّى هاني سعيد تصبح حياتك عيد في الرقة والإحساس يجوا ويهنوك ٭٭ الابتسامة رسول لي كل معنى جميل واختار جميل القول بالفطرة تبقى أصيل تسعد في أيامك وتنساها آلامك واصدح وغنِّي وقول بي كل معنى جميل { وجد النص استحساناً من البعض، غير أن الابن الأستاذ يونس، خريج كلية القانون الذي يعمل بمحطة الكهرباء، سألني: عمي.. هل هبط عليك الإلهام؟! أم هو مجرد نظم؟! قلت له: الاثنان معاً.. وذهبنا في حوار ممتع حول شيطان الشعر والنظم والإلهام والتداعي وميلاد القصائد. وهنا تذكرت كوكبة من أساتذتي في الشعر، «عتيق» - يرحمه الله - وسأكتب عنه شهادتي كتلميذ له هو و«عبد الرحمن الريح» وآخرين ملأوا الدنيا غناءً جميلاً وكانوا يرتادون مجالس البسطاء من أهلنا.. وتذكرت الشاعر المصري «أمل دنقل» الذي أنشد قصيدة قصيرة عميقة قرأتها على أصحابي بزقاق العرضة: آه.. ما أقسى الجدار!! حينما ينهض في وجه الشروق!! ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة ليمر الضوء للأجيال مرّة!! آه.. ما أقسى الجدار!! ربما لو لم يكن هذا الجدار.. ما عرفنا قيمة الضوء الطليق!! ومضينا نتحدث عن أمل دنقل وجداره وعن الشروق وتلك الثغرة التي يودّ كل منّا أن يحدثها في ذلك الجدار لينعم بالضياء والشروق!! تُرى ما كُنه الجدار الذي ينهض بينك والشروق؟! وعلِّي أحدثت تلك الثغرة التي سينسكب منها الشروق؟! { وجاء «القذافي» في شهادة المعلم «فاروق» والمعلم «حمزة»، وكلاهما أنفق سنوات بالشقيقة ليبيا، والمناسبة خبر أوردته (الأهرام) في صفحتها الأولى بعدد السبت، بأن أهلنا بالعيلفون - بعضهم - ينادي بتغيير اسم الطريق الذي يحمل اسم القائد الأممي.. ورجحت كفة الحوار بالمناشدة بعدم تغيير أسماء الطرق والمؤسسات التي ارتبطت بالتاريخ والمناسبات.. غير أنهم أجمعوا على ضرورة تغيير القادة الذين ظلموا شعوبهم وساموها العذاب.. وأفاض أكبرنا سناً «التوم حسن».. الملقب بأبو شاشة.. بالمناسبة اللقب جاءه حينما كان يعمل بسينما «برمبل» حاكم أمدرمان الذي أنشأ سينما «برمبل» إبان فترة الاستعمار.. حدثنا أبو شاشة أنهم أطلقوا عليه اللقب حينما هبّت عاصفة مزقت شاشة السينما.. فانبرى وأمسك بالشاشة إلى أن انتهى الفلم.. قال لي: الفلم كان «جاري كوبر» وحي كوبر والسجن سموهم باسم الخواجة، بعدين - مواصلاً - أنا عندي قصة مع الخواجة «برمبل» لمّن كنت شافع - أبو شاشة الآن بلغ الثمانين ونيف - إنت عارف يوم فزّيت من أمي.. عريان.. أنا أجري.. وهي تجري لغاية ما قبضوني ليها.. مسكتني وضربتني وصادف مرور «برمبل» حاكم أمدرمان راكب حصانه.. نهرها: يا ست ليه تضربي ولد؟! أمي قالت ليهو: الولد زعلان عشان ما عندنا بيت!! «برمبل» قال ليها: عندك قروش؟! أمّي ردت عليهو بعد طلعت محفضتها: عندي تعريفة وإتنين أب عشرة.. أعطتهم للحاكم برمبل وأدّانا الأرض الفيها بيتنا في ود نوباوي... وتمضي أحاديث أحبتي بزقاق العرضة.. { أخي الحبيب.. هل تعيرني صفحتك لأنشر فيها هذه التداعيات، فقد تاورني وجع ضرس الكتابة إن كان في أحرفي ما يفيد البعض..