لقاءات عديدة قد أجريت مع العميد صلاح الدين كرار، عضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ، منذ أن ترك مقاعده في منظومة الإنقاذ، لكن اللقاء الأخير الذي نشر هنا في هذه الصحيفة على مدار ثلاث حلقات كان مميزاً وشاملاً، فقد قال بالتفصيل ما لم يقله في كل المرات الفائتة، لقاء كما لو أنه جاء تحت عنوان «الآن حصص الحق»، فنحن نعيش بامتياز عصر «الشهادات العربية»، فثوراتنا العربية التي معظمها فوق العقدين من الزمان الآن تفتح أمامها صفحات التاريخ، وكرار الذي هو واحد من المؤسسين الأقوياء لشركة الإنقاذ الفكرية له ما يقوله، فهو على الأقل (شاهد شاف كل حاجة)، ولو طُلب مني أن أختزل كل ما قاله العميد كرار في جملة مفيدة واحدة، سأستعصم وقتها بمقولة الزعيم الصيني الشيوعي ماو التي أطلقها في أربعينات القرن الماضي «الثورات يخطط لها الأذكياء وينفذها الأبطال ويستغلها الجبناء»، هذا ما دندن حوله كرار على مدى ثلاث حلقات، وسهام وأسهم كرار في «شركة الإنقاذ» لا ينكرها عاقل، وكان لثباته وصموده «ليلة التنفيذ» وما بعدها من الأيام والمواقف الصعبة أثر كبير في ثبات الثورة برمتها، فالمعروف عسكرياً أن لثبات القادة دوراً كبيراً في ثبات القواعد، وتميز العقيد كرار أكثر في تلك الأيام ببزته العسكرية البيضاء، ثم شغل الرجل في مرحلة ما بعد التمكين أدواراً عديدة، يذكر في مقدمتها «اللجنة الاقتصادية» ثم وزارات النقل ومجلس الوزراء والنفط، فأتصور أن رجلاً يمتلك كل هذه الأسهم كان من الخطأ بمكان تصفية كل «أنصبته» وبتلك الطريقة، على الأقل كان الرجل يستحق أن يخرج خروجاً مشرفاً من ثورته التي صنعها مع رفاقه «بليل الأسى ومر الذكريات»، فلن ينسى العميد كرار أبداً أنه قد اُستدعي في نهاية المطاف من «جزيرة البحرين» من قبل وكيل وزارة الخارجية، وكان هذا آخر عهده بالمناصب الحكومية، وصلاح الدين الرباطابي الحصيف الذي لا تخذله اللباقة والتوصيف، فلقد اختزل حالته وحكايته مع الإنقاذ في تلك الطرفة، لقد وُجد أحد المسافرين بمحطة السكة الحديد بعد مغادرة القطار وهو يدخل في هستيريا من الضحك، ولما سئل قال أنا المسافر وأنا المودع قد أخذ موقعي في تلك الرحلة! ولكن العميد كرار قد دفع دائماً ثمناً باهظاً لمواقفه الصحفية الجريئة، وأتصور أن بداية النهاية لمسيرة الرجل الإنقاذية يمكن أن تؤرخ بتصريح صحافي شهير وقتها أدلى به لصحيفة أخبار اليوم، وقد سئل عن الشيخ الترابي، فقال «أنا ليس لي شيخ»، وكان شيخ حسن وقتها هو «الشيخ المعتمد» الرسمي لكل القوم، قوم الشيخ حسن، وأذكر أني قد كتبت يومها مقالاً بصحيفة ألوان قلت فيه لسعادة العميد كرار إن (الماعندو شيخ شيخه الشيطان)، وكان كرار وقتها مرشحاً الى أن يبعث سفيراً لشبه الجزر البريطانية، فحوّلت بعثته إلى «جزيرة البحرين» التي هي أكبر قليلاً من «جزيرة مقرات» مسقط رأس الرجل صلاح الدين كرار. فلقد وُضع رجل «الإنقاذ الأبيض» المهندس بحري كرار بعد محطة البحرين في كشف «المغضوب عليهم»، ويذكر كرار نفسه أنه قد توجه وقتها للقصر لمقابلة الرئيس بمناسبة أحد الأعياد، وكان الناس يدخلون القصر في شكل مجموعات، مثل الوزراء والضباط ورجال الدين، فقال له موظف المراسم لم أجد اسمك فإلى أي الكشوفات تتبع، قال كرار بسخرية: «أنا أتبع لرجال الدين المسيحي»!، فالعميد كرار «رجل ثورة» وعضو في صفها وكشفها الأول، لم يوجد اسمه في كل الكشوفات والسبب «عدم الالتزام بالمؤسسة»، وكرار ينظر دائماً لرجال المؤسسة بأنهم جموع من المودعين الذين استحوذوا على حين غرة على مقاعد المؤسسين، لكنها قصة الثورات عبر التاريخ، فالثورات تأكل بنيها في معظم الأمكنة والأزمنة. فالعميد «معاش» كرار الذي يحمي نفسه الآن (بعكاز مضبب) في أحد أحياء الخرطوم الراقية، قد فقد آخر مقاعده بعضوية المجلس الوطني، فلقد سقط أمام مرشح المؤتمر الوطني في عقر داره ودائرته بأبوحمد وهو يدفع ثمن خروجه على المؤسسة. مخرج.. الرأي عندي أن يحافظ كرار على «مقعده التاريخي» في ذاكرة الجماهير ويحجم عن التصريحات. والله أعلم.